منتدى العمق

الفن في خدمة السياسة بمصر.. فيلم الجزيرة نموذجا

حقيقة لا تقبل الشك ، “السينما المصرية ” رائدة في العالم العربي بترسانة ضخمة جمعت كل أسباب النجاح لهذه الوصلات السينمائية ، ديكورات فخمة ، وتوفير موارد مالية مهمة للعديد من الأعمال التي تم تصويرها في الخارج أحيانا ، نجوم رسمت البسمة ، التشويق ، الإثارة على محيا الجمهور العربي ، ولكم يشهد التاريخ لأعمال حصدت نجاحات لا مثيل لها من قبيل مسرحية “الزعيم” ، “مدرسة المشاغبين” …واللائحة طويلة .

ترجع أسباب ريادة مصر للفن السابع ، إلى “التحرر ” من القيود الملزمة لهذه الأعمال الفنية والمفروضة من قبل جهات وصية تحت ذريعة “تخليق الحياة العامة ” وان يختزل الفن في معناه الايجابي ، لكن الروائيين وكتاب السيناريو المصريين تجاوزا كل الضوابط، فشهدت بعض الأفلام والمسلسلات إيحاءات جنسية بالجملة ، لعل أبرزها : أفلام المخرج “خالد يوسف ” ، وذلك في إطار ما يعرف بمحاكاة الواقع ، زيادة على الاستثمار في مجال الإعلام السمعي البصري والسينما ، وتخصيص نفقات مالية كبيرة تحت تصرف المخرجين ، دون أن ننسى إبداعات الممثلين وعراقة الفن المصري الذي عاصر الأجيال وكان السباق للبروز داخل الوطن العربي ، فحافظ على مكانته أمام الإنتاجات التركية المتدفقة إلى بيوت كل العرب .

غير أن الملاحظ ، أن العطاءات السينمائية ليست مجانية ، فالفن المصري ظل ملازما للمؤسسات المصرية يتضمن مواقفها ويتحدث أحيانا باسمها، لعل ابرز فيلم هو : “طباخ الريس” ، الذي سوق لفكرة مؤداها أن المحيط العام لرئيس الجمهورية “مكهرب” وان القضايا العامة لا يعلم عنها الرئيس الشيء الكثير ، هي محاولة كاذبة ، خاطئة ، لتبرئة المسئول الأول للدولة ، يضاف إلى فيلم : “زواج بقرار جمهوري ” الذي يحاكي تفاعل الرئيس مع نداءات المواطنين فحضر حفل الزواج لمواطن بسيط ، بينما بلغت العبقرية والجرأة السينمائية مبلغها في فيلم : “عايز حقي ” المتضمن للجو الديمقراطي النزيه الذي يعيشه المجتمع ، مما دفع بمواطن إلى تقديم طلب بيع نصيبه في المال العام ، والتجاوب الايجابي للسلطات مع القرار ، فلو كان الأمر كذلك ، لما قتل المتظاهرين في “موقعة الجمل “، لكن في المقابل ، برزت أعمال مناهضة خاصة من المخرج خالد يوسف ، الذي انتقد الوضع بشدة ، لكن بالرغم من هذا وذاك ، ظل الفن والسياسة في نفس المسار.

فيلم الجزيرة – الجزء الثاني للمخرج شريف عرفة وبطولة نخبة من النجوم البارزة على الصعيد العربي: (احمد السقا – خالد صالح – هند صبري….) ، أكد الافتراض وصوب المغالطات ، بعنوان عريض الفيلم يقدم الصورة التالية : “الفن في خدمة السياسة ” ، على الرغم من نجاحه الكاسح على مستوى الإيرادات المالية التي وصلت إلى ما يقارب 20 مليون جنيه مصري ، وهو رقم يؤكد النجاح ، ولعل العوامل تكمن في تعدد الحبكات السينمائية ، قصة تاجر سلاح ، متهرب من حكم إعدام وطامع للعودة للأيام الخوالي ، يصطدم بمطبات كون حبيبته أصبحت “الزعيمة ” فيبدأ صراع مزج بين الحب والسيطرة على الجزيرة ، بين تحالفات مشبوهة وصولية وكشف لأبعاد أخرى تدخلت في المشهد للزيادة في عنصر التشويق ، فالفيلم بلغة المتابع العادي ، ذو الثقافة المحدودة ، ناجح بل يكاد يصنفه كأحسن فيلم شاهده في حياته .
ما خفي كان أعظم ، فالفيلم هذه المرة تجاوز الواقعية ، وتنبأ بأحداث ستقع ، مما يعني أن الفيلم كان من إعداد جهات استخباراتية ، لهذا فهو وقع في أخطاء مقصودة أو غير مقصودة يكمن وصفها “بالخطايا” والبالغ عددها سبعة :

الخطيئة الأولى ، تقديم متظاهري 25 يناير على أنهم : “ثوار مسلحون” ، وتجسيد واقعة “سجن وادي النطرون ” والذي فر منه معتقلين أثناء الثورة من أبرزهم : محمد مرسي ، والذين تم تبرئتهم من المؤسسة العسكرية في عهد حسين طنطاوي بعد حادث الهروب ، على أن يستغل نظام السيسي هذه “الواقعة “ليعيد المحاكمة من جديد ، وهو موقف من فريق العمل للفيلم يؤكد فيه تجنب الحياد في تشخيص الثورة مما خلق جدل واسعا.

الخطيئة الثانية ، الاتهام المباشر لمسئولي غزة ، عبر شخصية اللواء “رشدي وهدان” ، باستغلال الأنفاق من اجل المتاجرة بالسلاح لا بهدف المقاومة ، وان الحكومة المصرية كانت تغض الطرف عن هذه الأمور ، اجتهاد كبير لم يتجرا على البوح به أي مسئول حكومي ، فمن لم يستطع تقديمه في الإعلام الرسمي ، تم تضمينه عبر رسائل تمزج الخيال بالواقع ، مغلفة بالسرد والوصف والدراما المثيرة للاهتمام.

الخطيئة الثالثة ، التنبؤ بطبيعة النظام السياسي القادم ، وربطه بالجماعات الإسلامية ، مع العلم أن أحداث الفيلم تدور ما بين 24 يناير ومنتصف 2012 ، من خلال شخصية زعيم “الرحالة ” الذي وعد منصور ، بان الرئيس الجديد سيمتعه بالعفو ، وكان الرسالة المتوخاة ، أن النظام القادم هو امتداد لفكر “الرحالة” ، لكن التنبؤ لم يكن عفويا ، فالرئيس انتخب في 30 يونيو 2013 ، قادم من جماعة “الإخوان المسلمين ” ،مما يعني أن واضع الفيلم تجاوز الواقعية والتشخيص الموضوعي .

الخطيئة الرابعة ، الاتهام المباشر لجماعة “الإخوان المسلمين” بالإرهاب ، بتضمين اقوال “حسن البنا” في خطاب زعيم “الرحالة” ، وما شهده الفيلم من أعمال ترويعية للجماعة باسم الدين ، أي بصريح العبارة ، أن فكر الإخوان هو السبب الرئيس في انتشار التطرف والعنف الممارس من طرف كل جماعة إسلامية .

الخطيئة الخامسة ، محاولة تغليط “الرأي العام “، فبعد تبرئة الرئيس وتحميل “حبيب العادلي ” مسؤولية قتل المتظاهرين ، يأتي الفيلم ليؤكد أن وزارة الداخلية الجديدة ، أصبحت مهادنة وموالية للجماعات الإسلامية ، على اعتبار أن من يسير هم الإسلاميون ، ولا يجوز التعرض لهم حتى لو خالفوا القانون ، وهذا الأمر يمكن وصفه بموقف الدولة العميقة الضمني لما يحدث من تطورات .

الخطيئة السادسة ، العمل على تجميل صورة النظام القديم والعمل على إحياءه من جديد ، انطلاقا من الحوار الذي دار بين اللواء “رشدي وهدان ” و”منصور الحفني ” ، على أن المستفيدين من الثورة هم المجرمين وقطاع الطرق ، والهاربين من أحكام العدالة ، وتقديم النظام القديم على انه “صمام الأمان” .

الخطيئة السابعة ، التضخيم من حجم جماعة “الرحالة ” ، من خلال مطالبة “رشدي وهدان” بالهجوم عليهم ، على أساس أنهم “دولة داخل الدولة ” ، وهو أمر لا يقبله عقل ، فلا يمكن لدولة تمتلك جهاز إداري ، عسكري ، امني أن تقارن بجماعة تعيش بين الجبال ، هي رسالة مشفرة مفادها أن أي قمع سيحدث للحريات هو من اجل استتباب الأمن ، ليتناقض محتوى الفيلم شكلا وجوهرا بتصريح اللواء بأنه تعامل مع الرحالة بناء على التعليمات ، وانه كانت تتم ترقيته بناء على ذلك ، فهو بذلك يجيب بشكل أو بأخر على السياسة المصرية المعتمدة مع الجماعات المعارضة أو شبه المعارضة .

صفوة القول ، كم هو جميل لو ترجم الواقع المعاش إلى أعمال تشخصه وتحاكيه ، لكن الأدهى هو الاجتهاد في تفسير الغموض السياسي لبلد ما ، مما يجعل هذه الأعمال لا تتمتع بالاستقلالية ، الشيء الذي يجعلنا نفترض أن واضع الفيلم وراسم خطوطه لن يكون من الوسط الفني ، بل نكاد نجزم أن يكون من انجاز جهات بعينها ، هدفها تفسير الأمور برؤيتها ، وهنا يسقط الفن في شراك الحسابات السياسية .