وجهة نظر

الحري يكتب: السياسي حينما كان مثقفا عضويا عبد الله إبراهيم نموذجا

في زمن يغلب فيه الطابع “الشعبوي” على السياسة والسياسيين بالمغرب المعاصر، لا نملك إلا أن نترحم على عهد كان فيه السياسي مثقفا عضويا، يعيش هموم الجماهير ويتفاعل معها بطريقة تجعله قادرا على التوفيق بين ضرورة النزول التكتيكي إلى واقعها اليومي والآني وبين ضرورة الرقي بذلك الواقع على المستوى الاستراتيجي.

ليس دور السياسي أن يتماهى مع الجماهير وأن يسايرها في كل شيء، بل دوره أن ينصت بإمعان إلى نبضها وأن يمارس نضال القرب من همومها، بحثا عن سبل النهوض والارتقاء بأوضاعها إلى مستوى تطلعاتها وأشواقها في النهضة والتحرر والانعتاق، من أغلال القهر والجهل والاستبداد.

إن السياسي لا يمكنه أن يمارس السياسة بمعناها النبيل، كمهنة شريفة لمعالجة أمراض الواقع، إلا إذا كان هو ذاته مسلحا بخلفية نظرية صلبة ورؤية فكرية واضحة، تجعله يؤسس اعتقاداته الإيديولوجية على نصيب وافر من العلم والمعرفة بدل تأسيسها على التحكم والدجل والوهم، أو الجاه والمال، والاستفادة من الريع، كما هو حال هؤلاء “الساسة” من الدرجة الثالثة الذين ابتلي بهم زمننا المغربي الراهن.

يستطيع المرء أن يقارن بين رجالات السياسة من أمثال علال الفاسي، محمد بلحسن الوازاني، وعبد الله إبراهيم .. وغيرهم من الرجال الذين كان يصعب التمييز في شخصيتهم بين السياسي والمثقف، حيث كان المثقف سياسيا بالقوة والسياسي مثقفا بالفعل.. على الخلاف تماما مما يجري اليوم حيث قطع السياسي كل علاقاته بالثقافة والفكر والمعرفة، ومد كل جسور التواصل مع فنون الدجل والتمويه والخداع والاستهزاء بالفنون والآداب والفلسفة .. والثقافة عموما.

وكمثال على هؤلاء الرجال، نضرب للأجيال الصاعدة بالسياسي المغربي عبد الله إبراهيم، الذي لم تمنعه التزاماته السياسية الكبيرة ، سواء في عصر “الحماية” الفرنسية أو في عصر الاستقلال، من أن تكون له اهتمامات ثقافية متعددة ومختلفة، تلتقي كلها في نقطة مركزية وهي بناء رؤية إديولوجية وسياسية انطلاقا من منظومة فكرية صلبة ومتينة.

لن أضرب للشباب مثالا بواحدة من القضايا الفكرية المعروفة والمتداولة، التي طرق بابها الراحل عبد الله إبراهيم، وإنما سأقف عند نص غير معروف ومتداول، إلا في حدود ضيقة جدا، يقدم فيه المرحوم قراءته للفلسفة الرشدية، التي اتخذها عدد من المثقفين والسياسيين العرب المحسوبين على الصفين “الحداثي” و”السلفي” نموذجا قابلا للإقتداء به لنسج سردية جديدة تزاوج بين “الأصالة والمعاصر” في بيئتنا العربية الراهنة.
لقد كان عبد الله إبراهيم أول مثقف مغربي ينتبه إلى قيمة ابن رشد وفلسفته الإسلامية، فكتب عنه بعيدا عن المنطق الاحتفالي والتمجيدي، ومن دون السقوط،أيضا، في فخ المنطق القدحي والهجائي، حيث خصص له مقالارصد فيه ثلاث اهتمامات فلسفية كبرى لفيلسوف قرطبة، وهي:
1- تحديد منهج عقلي إنساني عام ومشترك بين كل البشر، أولا،
2- بناء تصور فلسفي متكامل للعالم الطبيعي والميتافزيقي له امتداداته الأخلاقية والمدنية، ثانيا،
3- الدفاع عن علاقة الاتصال والتضامن بين الحكمة والشريعة،ثالثا.

لقد ناصر ابن رشد،من منظور عبد الله إبراهيم، فلسفة أرسطو، وأعاد تركيبها وتصحيحها من أغلاط الشراح القدامى وتحويرات الفلاسفة السابقين كابن سينا والفارابي، وشيد على أساسها تصورا متكاملا ومنسجما يبتدئ من قضايا الوجود المطلق وينتهي إلى قضايا مسؤولية الإنسان، ومصيره وحريته؛ بعدما أعاد تركيبها. وقد كان هدفه الاستراتيجي هو كسب رهان معركة الربط العضوي بين الإيمان والعقل، وإقامة جسر كبير يربط الدين بالفلسفة.

ويذهب عبد الله إبراهيم إلى اعتبار ابن رشد فيلسوفا مناضلا ومصلحا ومفكرا ملتزما يعيش مأساة مجتمعه الإسلامي عامة والمغربي خاصة، وذلك بالنظر إلى المقاومة العنيفة التي واجهت المشروع الرشدي من جميع الفرق الإسلامية التي اعتبرته بمثابة إعلان حرب ضدها.

لكن صدى ابن رشد لم يقف عند حدود جغرافية العالم الإسلامي، بل امتدت إلى “الغرب اللاتيني كالإعصار، تثير، في نفس الوقت، الإعجاب الجارف، أو المعارضة العنيفة، في أوساط الكنيسة المسيحية وبين رجال الفكر من الأوربيين، طيلة أربعة قرون تقريبا”.

ويرى عبد الله إبراهيم أن تأثير الفلسفة الرشدية لا يقف عند حدود القرون الوسطى العليا وبدايات عصر النهضة الأوروبية الأولى، بل يمتد إلى عصرنا الراهن، الأمر الذي يفرض علينا الدخول في حوار نقدي مع هذا الفيلسوف الكبير الذي استطاع أن ينفذ بقوة إلى مغاور العقل الأرسطي، ويضفي عليها القابلية للتأثير على “واقع تاريخي جديد يتصل فيه ماضي الإنسانية الفكري بحاضرها”.

وإذا كان عبد الله إبراهيم لا يخفي إعجابه الكبير بابن رشد، فإنه لا يخفي أيضا استغرابه من الخلط بين الميتافيزيقي والطبيعي في العقل الرشدي الذي جرد قضايا التاريخ والسياسة والأخلاق، وشيد مدينة فاضلة ليست من مدن الجغرافيا، وشعبها ليس من شعوب التاريخ. إنها مدينة كونية شفافة ولا متناهية. وكأن كل الفضائل والأنظمة والمجتمعات والأفعال صالحة لكل زمان ومكان محررة من قيود التاريخ.

إن عبد الله إبراهيم باعتباره فاعلا سياسيا بارزا في مغرب عهد الحماية والاستقلال، يبحث عن بناء مدينة مغربية ، يعز عليه وقوف ابن رشد عند مدينة يغلب عليها الطابع الماورائي وليس التاريخي. والظاهر من خلال هذه المؤاخذات التي يسجلها على ابن رشد، أنه لم يطلع على كتابه “مختصر سياسة أفلاطون”، الذي فقد في أصله العربي، ولم تظهر ترجمته إلا فيما بعد؛ وفيه يوجه ابن رشد نقدا مباشرا للواقع السياسي في عصره، وينتقد أنظمة الحكم الاستبدادية، ويبدي تفاؤله في إمكان إقامة سلطة فاضلة في مدينته الأندلسية وفي زمنه الوسيط.

إن العودة إلى ابن رشد عند عبد الله إبراهيم، هي عودة إلى ما يمكن أن يفيدنا في بناء مدينتنا العربية الراهنة فكرا وسياسة، وهي العودة التي ستتضح معالمها أكثر عند باحثين مغاربة آخرين جاؤوا لدنيا الفلسفة من عالم السياسة.