منوعات

بويخف: عملية تزييف للوعي وسط حزب المصباح .. أسئلة كاشفة” (2)

نستأنف في هذه الحلقة الثانية تسليط الضوء على عناصر من الوعي المزيف الذي انتشر في أوساط أعضاء حزب العدالة والتنمية، بعد أن توقفنا في الحلقة الأولى على عنصر هام يتعلق بانتشار نفس التحدي الذي لا مبررات واقعية له.

الحلقة (2): وهم صناديق الاقتراع
الزيف يولد الأوهام، هذه قاعدة ذهبية. ويمكن القول إن أخطر عناصر تزييف الوعي داخل حزب المصباح هي المتعلقة بشعبيته الانتخابية، وتشكيل رأي عام داخل الحزب (وأيضا الرأي العام الوطني) يطمئن إلى أن حصول الحزب على 125 مقعدا جعل الطريق أمامه سالكا. والواقع أن ذلك مجرد أوهام تغاضى عنها أكاديميون وبعض الإعلاميين وهم يدركون حقيقتها، مساهمين بذلك، بوعي أو بدونه، في تزييف الوعي في هذه المسألة داخل حزب مطلوب فيه أن يمارس السياسة برؤية علمية واقعية.

ورغم أن التشوه الذي لحق حكومة 2013، وجعلها بعيدة كل البعد عن ترجمة صناديق الاقتراع، كان كافيا لتنوير الرأي العام داخل حزب المصباح بالموقع الحقيقي لقوة صناديق الاقتراع في مربع صناعة القرار السياسي، إلا أن خطابات الحملات الانتخابية الأخيرة، وخطابات الأستاذ ابن كيران القوية خلال تدبير مشاورات تشكيل الأغلبية الحكومية، أعادت تكريس وهم صناديق الاقتراع من جديد وبقوة أكبر. وكان أبرز ما تجلى فيه ذلك خلال الحملة الانتخابية حين طالب المغاربة بالقول: “أيها المغاربة أنتم في امتحان، اعطوني أصواتكم وخليوني مني ليهم”، وهو كلام يستبطن أن الأصوات، وبالتالي صناديق الاقتراع، تكفي لمواجهة التحكم والنجاح في الإمتحان. مما لا ينبغي معه الاستغراب من المراهنة الكبيرة على حصيلة الحزب في صناديق الاقتراع لحسم معركة تشكيل الأغلبية الحكومية، وهي معركة تحكمها مع الاسف قواعد أخرى أكثر حسما.

إن أكبر خلل أصاب الوعي السياسي في أوساط البيجيديين، وقد راكموا تجربة كبيرة في تدبير التنازلات من المفروض أن يجعلهم يفهمون محدودية قوة صناديق الاقتراع، هو إغفال حقيقة الخريطة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة. وكثير منهم يقفون عند النتيجة الكبيرة التي حققها المصباح منفصلة عن باقي النتائج، مع العلم أن صناديق الاقتراع إذا توجت حزب المصباح في صدارة النتائج فهي لم تعطه أبدا السلطة الكافية لاستثمار ذلك، حيث كبلته بخريطة حصيلة يستحيل عليه معها التقدم في تشكيل الحكومة دون مساعدة من أحزاب التحكم.

فإذا جاز نظريا تقسيم الأحزاب إلى كتلتين، كتلة الأحزاب التي سميت إعلاميا بأحزاب الكتلة التاريخية، وهي بالخصوص حزب الميزان والوردة والكتاب والمصباح، ومجموع مقاعدها في البرلمان 203 مقعدا. وكتلة الأحزاب الإدارية وهي بالخصوص حزب الجرار والحمامة والسنبلة والحصان، ومجموع مقاعدها 185 مقعدا، فإن النتائج الانتخابية لم تكن حاسمة وجاءت الكتلتان متقاربتان، والأغلبية العددية للكثلة الأولى أغلبية نظرية وهشة. ذلك أنه من جهة، فتلك الأغلبية هشة بحكم أنها لم توفر سوى فائضا من خمسة مقاعد فقط . ومن جهة أخرى، لا وجود في الواقع لشيء اسمه أحزاب الكتلة التاريخية، إذ لم تترجم تلك الصفة قط إلى علاقات وتنسيقات وبرامج. فهل جميع أحزاب الكتلة تلك الكتلة تومن بخيار “الكتلة التاريخية” وتعمل على تكريسه كآلية سياسية في المشهد السياسي المغربي؟ وهل تم إعداد أرضية تقرب بين مكوناتها قبل الانتخابات؟ وهل كانت برنامج عمل أي من الأحزاب المكونة لها؟ والجواب السلبي عن تلك الأسئلة يعني أن المراهنة على شيء اسمه “الكتلة التاريخية” لا يصلح إلا في التحليل الأكاديمي النظري، وفقط حين البحث عن البدائل النظرية للمشهد السياسي الحالي.

وهذه الحقيقة أدركها الأستاذ ابن كيران مند الوهلة الأولى حين قرر انتظار حزب الأحرار شهرا تقريبا حتى يعقد مؤتمره ويختار السيد أخنوش قائدا له. وكان بعض من يولولون اليوم معبرين عن “الصدمة” مما يجري انتقدوه في ذلك ! لكن المفارقة الأكبر أن لا أحد آخر غير السيد أخنوش وضع الاشتراطات المعلومة التي رفضها الأستاذ ابن كيران مما أفضى إلى “البلوكاج” المعلوم. فما هو حجم التنازل الذي قدمه الأستاذ ابن كيران حين انتظر تنصيب الرجل الذي سوف يقف في وجهه؟ إنه من المستبعد أن يكون الأستاذ ابن كيران لم يستحضر المثل الشعبي الذي يقول” لي فراس الجمل فراس الجمالة”، لكنه اتبع المنطق السياسي الواقعي والبراغماتي المراهن على الممكن واقعيا، إلا أنه لم

أما بعد إسقاط حزب الميزان من أي امكانية للتحالف معه بفعل القضية الوطنية المعروفة التي صنعت بدقة وأقرها حزب المصباح باستبعاد الأستاذ ابن كيران له في آخر محاولة له لتشكيل الحكومة، فإن عنصر المفاجأة كان ينبغي أن يزول نهائيا، وأن يدرك أعضاء حزب المصباح أن المشاورات الحقيقية التي سيجريها حزبهم إذا أراد الاستمرار في تشكيل الحكومة وقيادتها، سواء بقيادة الأستاذ ابن كيران أو بقيادة غيره، ستكون في نهاية المطاف مع التحكم من خلال أحزابه، وأنه لن تنفعه المراهنة إعلاميا على حصر التحكم في حزب البام، لأن الحقيقة تقول غير ذلك. لكن لماذا استمر وهم إمكانية فرض اشتراطات غير واقعية تقضي باستبعاد حزب الوردة الذي لعب الدور الحاسم في تحويل حزب الحمامة إلى رقم متحكم في المعادلة؟ إنه في سياق البلوكاج لا يمكن الفصل بين حزبي الوردة والحمامة، فكلاهما ساهم بفعالية في صناعة البلوكاج، الأول بنسف خيار ما سمي حكومة أحزاب الكتلة التاريخية وفرض خيار “الحمامة الحاسمة” بالاستسلام لحوب السيد أخنوش، والثاني باشتراط إشراك الوردة في تقسيم الكعكة مكافأة لها ضدا على رغبة رئيس الحكومة المكلف. لكن حتى لو قبل الأستاذ ابن كيران شروط أخنوش كلها، فربما يستمر البلوكاج بمسببات أخرى، لأن الظاهر هو أن الأستاذ ابن كيران ينبغي تنحيته. وسنعود إلى هذه النقطة التي أدركها قادة الحزب بشكل جيد.
لقد كانت فترة انتظار انعقاد مؤتمر الأحرار لانتخاب أمينهم العام فترة انتشرت فيها التحليلات الكثيرة التي ساهمت في تكريس الأوهام في عقول شباب حزب المصباح وكثير من قيادييه. ومن أغرب التحليلات التي تربع أكاديميون وإعلاميون على عرشها، تلك التي تراهن على أن يتجاوز الأستاذ ابن كيران حزب الأحرار ويبني أغلبيته من الأحزاب “الديموقراطية”: الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي، والتقدم والاشتراكية، وحزب المصباح. وتوسع المحللون والمنظرون في تمجيد حكومة من أحزاب ما سمي بالكتلة التاريخية. وكانت تلك التحليلات مغرية حيث تتحدث عن فرصة استثنائية لفرز صحي للمشهد السياسي: الأحزاب الديموقراطية في التسيير وأحزاب الإدارة في المعارضة. وكانت هذه النظرة الأقرب إلى التصوير الكاريكاتيري، هي المستحكمة في تفكير كثير من قيادات الحزب وشبابه، وكانت من السيناريوهات الأكثر إغراء، لأنها نظريا الأكثر تعبيرا عن مستوى من المفاصلة مع التحكم. لكن، وكما سبقت الاشارة إلى ذلك، لم تكن تمتلك حدا أدنى من المصداقية الواقعية.

ويفرض الوعي الزائف حول “الكتلة التاريخية” طرح أسئلة هي: كيف يمكن المراهنة على حزب الوردة في ظل زعامة السيد لشكر وبعد كل التطورات التي شهدها ذلك الحزب والمواقف التي مارسها في كل المحطات الانتخابية وطيلة ولاية حكومة الأستاذ ابن كيران، للتطبيل لحكومة “الكتلة التاريخية”؟ وكيف غاب ذلك عن مدارك قيادات في حزب المصباح وقواعد شبابية فيه؟
لقد أدرك الأستاذ ابن كيران مبكرا أن المراهنة على حزب الوردة رهان خاطئ. وتبين بعد ذلك أن حزب الوردة، الذي استصغر كثيرون عدد المقاعد العشرين التي حصل عليها، هو من جعل خيارات تشكيل حكومة الأستاذ ابن كيران تنحصر في خيار واحد، هو الخيار الذي يكون فيه لحزب الأحرار الدور الحاسم، بعد استحالة تجميع أحزاب ما سمي بالكتلة التاريخية. كما تبين أن حزب الحمامة الذي استصغر الأستاذ ابن كيران عدد المقاعد السبعة والثلاثين التي حصل عليها هو صانع البلوكاج بامتياز بعد أن حطم حزب الوردة وهم “الكتلة التاريخية”. والدور الذي لعبه حزب الوردة، واكتشفه الأكاديمويون وبعض الاعلاميين بعد ذلك، هو ما تمت مكافأته عليه بما أفرزته التطورات بعد ذلك.

القفز على الحقيقة الساطعة التي تعبر عنها خريطة نتائج الانتخابات، وحقيقة المشهد الحزبي المغربي، يؤكد حجم الزيف الذي لحق الوعي السياسي لدى حزب المصباح، وتؤكد بالتالي حجم الأوهام التي كانت تغذيها شعارات صناديق الاقتراع في صفوفه، وشعارات التفويض الشعبي الذي لم يكن أبدا كاملا. لذلك كانت الصدمة كبيرة حين اصطدم الجميع مع واقع سياسي مر مفاده أن لا خيار ثالث ممكن، فإما دخول تحالفات بشروط القوة المتحكمة التي ليست هي نتيجة المصباح في صناديق الاقتراع، أو الذهاب إلى المعارضة.

ومن الأوهام السياسية الكبيرة التي انتشرت بشكل واسع حتى في صفوف الأكاديميين، الحديث عن “التفويض الشعبي”. وهو توصيف غير واقعي. ذلك أنه لا يمكن الحديث عن التفويض دون تمليك سلطة كاملة تمكنك من ممارسة موضوع التفويض. ولا تكون لأي تفويض قيمة فاعلة سياسيا إلا في الحالات التي يكون فيها مرجحا وحاسما. وتلك الحالات هي أن يتوج حزب بأغلبية مريحة تجعله ينفرد بتشكيل حكومته أو يستعمل ورقة التفويض الشعبي في المفاوضات مع الأحزاب التي يقرر باختياره التحالف معها. أو أن يُفرَز توجه دال من تشكيلة حزبية متقاربة يمكنها بسهولة تشكيل الأغلبية الحكومية بناء على اعتبار أساسي واحد هو صناديق الاقتراع. وخارج هذه الصورة لا وجود لتفويض شعبي حتى حين لا يكون بين حزب المصباح وبين تلك الأغلبية المريحة سوى مقعد واحد إذا كان سيخضع بسببه لاشتراطات التحكم. والتجارب العالمية غنية بأمثلة تخضع فيها أحزاب كبيرة من حيث عدد المقاعد المحصل عليها في البرلمان لشروط أحزاب قزمية فيه.

وشعارات صناديق الاقتراع والتفويض الشعبي من الشعارات التي أعمت كثيرين، وبثت فيهم نوعا من الاستعلاء على باقي الأحزاب. ولقد تجلى ذلك بشكل واضح في المقاربة الرياضية الشهيرة للأستاذ عبد الاله ابن كيران حين مواجهة اشتراطات حزب الأحرار وذلك حين ذكره بأنه ليس لديه سوى 37 مقعدا.

وتلك المقاربة الرياضية المستخفة انتشرت بين الأعضاء والمتعاطفين وفي وسائل إعلام خاصة، كما تنتشر النار في الهشيم. ونفس المقاربة أعيد استعمالها في مواجهة حزب الوردة الذي حصل فقط على 20 مقعدا. وقد كشفت تلك المقاربات الحسابية قدرا كبيرا من البعد عن قواعد اللعبة السياسية رغم تجربة وحنكة الواقعين فيها، ذلك أن رياضيات موازين القوة السياسية في البرلمانات لا تكون بمنطق الأرقام الصرفة، بل بمنطق وضعيات يكون فيها لأي رقم قيمة تختلف بشكل كلي عن ما يعبر عنه رياضيا، ويكون الرقم 20 حاسما في نسف وهم خيار “الكتلة التاريخية”، ويكون الرقم 37 رقما حاسما في وضعية يرتبط فيها بأرقام أخرى تجعل له قيمة حسابية سياسية أكبر بكثير من الرقم 125 الذي قد تكون له قيمة تقارب الصفر في وضعية يعجز فيها عن فعل شيء مما أعطته له الشرعية الانتخابية والدستورية.

واللخبطة الرياضية التي وقع فيها حزب المصباح كانت نتيجة فقدان رؤية توازن بين الشرعية (تتعلق هنا بنتائج الانتخابات) والمشروعية (موازين القوة)، وأيضا نتيجة تغول صورة العدد الثلاثي الأرقام 125 وتأطيره بخطابات عاطفية مثل التفويض الشعبي وإرادة الناخبين وصناديق الاقتراع. مع العلم أن إرادة الناخبين و صناديق الاقتراع تعبر عنها كل النتائج التي أفرزتها تلك الصناديق، وليس فقط نتائج حزب واحد من الأحزاب. والتوجه الممكن الذي يتم فرزه بناء على تلك النتائج حين يحقق القوة العددية الكافية لتملك التفويض الشعبي أو الانتخابي بشكل أدق، هو الذي سيمثل صناديق الاقتراع، وغير ذلك من المقاربات التجريدية لا قيمة لها إلا في المجادلات النظرية، أما في الواقع فلا تمثل شيئا.

إن الزيف الذي لحق الوعي السياسي وسد العدالة والتنمية، والمتعلق بنتائجه الانتخابية ساهم في كثير من المشاكل، سواء في تدبيره لتشكيل الأغلبية الحكومية، أو في تشكيل الديناميكيات النقدية والاحتجاجية داخل الحوب. فهل كان حزب المصباح موفقا في إشهار ورقة صناديق الاقتراع ضد التحكم الانتخابي؟ وهل مارس التوعية الحقيقية وسط أعضائه حين أركبهم ظهر موجة شعارات صناديق الاقتراع والتفويض الشعبي؟ بالتأكيد لم يكن موفقا في ذلك.