وجهة نظر

القباج يكتب: المصلح لا يذوب! (حاشية على كلمة عبد الإله بنكيران)

قرأت في الصحافة مقتطفات من الكلمة التي ألقاها الأستاذ عبد الإله بن كيران بمناسبة زيارته الخميس الماضي لقبر الدكتور الخطيب رحمه الله تعالى ..

وقد لفت انتباهي قوله فيها: “فإذا كنا مجرد شيء من السكر أو الملح الذي يذوب في كأس من الماء فسنذهب في أدراج الرياح غير مأسوف علينا”.

وسبب تنبهي هو أنني كنت تأثرت بكلمة شبيهة لهذه الكلمة؛ كان شيخ الإسلام الفقيه بلعربي العلوي (ت. 1964) قد قالها وهو يساق إلى أحد منافيه …

فقد نفاه الاحتلال الفرنسي خمس مرات بسبب كونه فقيها يشتغل بالسياسة ويعمل على بث الوعي الديني والوطني بين المغاربة ..

وفي إحدى تلك المرات قال لزوجته وأولاده وهم يبكون حزنا على فراقه؛ -وكان قد تجاوز السبعين-: “إنني لست من شمع فلا تخافوا علي أن أذوب، وإذا كان من عمري بقية فإن الشمل لابد أن يجتمع مرة أخرى، وإلا فوداعا من الآن”.

إنه موقف واحد من عشرات المواقف المشرفة التي وقفها هذا الفقيه في سبيل تحرر وطنه وكرامة المغاربة؛ مواقف لم تلق حقها من الإشادة والتنويه مع الأسف الشديد ..

لا أدري هل كان الأستاذ عبد الإله بن كيران مستحضرا لهذا الموقف الوطني المشرف حين قال تلك الكلمة ..؟

لكن دلالتها جديرة بالتأمل؛ فهي في نظري تشير إلى ما يجب أن يتحلى به المشارك في الإصلاح من صمود وثبات على مبادئه التي تمثل روح نضاله والمرتكز في شخصيته …

ويظهر لي أن الفقيه بلعربي أراد بمقولته؛ أن يجيب بعض أفراد أسرته الذين ربما استحسنوا له أن يقدم بعض التنازلات ويخفف من وتيرة مقاومته لإفساد المحتل وخدامه؛ وأن سنّه المتقدم يخول له قبول بعض عروض المفاوضين له باسم الاحتلال؛ والذين كانوا قد قدموا له عروضا مغرية في مقابل التخلي عن كفاحه في سبيل تحرر الوطن وكرامة المواطن ..

لكن جوابه كان حاسما؛ أكد فيه حقيقة أنه إنسان ذو كرامة، وأنه صلب في وجه من يريد إذابة كرامته؛ وليس شمْعا يبدأ في الذوبان عند أول حرارة تلامسه ..

وقد كان أكثر توضيحا لهذا المعنى لما نصحه البعض بالتراجع عن الاحتجاج ضد المقيم العام بالاستقالة من وزارة العدل؛ حتى لا يتعرض للمضايقات؛ ومنها: تجريده من الامتيازات المادية ..

وحاول أولئك الناصحون الضغط عليه بتخويفه على أولاده!

فكان جوابه أيضا حاسما؛ حيث قال: “بإمكانهم أن يتصرفوا وكأن والدهم قد مات”.

مشكلة السيد بن كيران مع خصومه السياسيين؛ هي أنه وضع حدودا لما يمكن أن يقدم من تنازلات؛ فهو يرى أن هذه التنازلات لا ينبغي أن تصل إلى درجة السماح بالاستخفاف بكرامة المواطن ورغبته في إصلاح حقيقي وعميق؛ يمكنه من حقوقه المهدرة ..

ويرى أن التنازلات مهما كانت في ملفات معينة؛ فإنها لا ينبغي أن تكون في أصل المسار الإصلاحي الذي يعالج أمهات المشكلات ويسعى لسد منابع الاختلالات ..

وهذه في نظري رؤية حكيمة تحمل في طياتها ما يمكن أن يكون حلاّ لذلك اللغز المعقد الذي نعبر عنه بسؤال: كيف نجمع بين “مقاومة الفساد” و”المشاركة في الإصلاح في ظل الاستقرار والمحافظة على المكتسبات”؟

ويبدو أن هذه الرؤية؛ هي التي استلهم منها كلمته الشهيرة: “عفا الله عما سلف”.

فإنه عنى بذلك: يمكن التساهل مع ملفات فساد معينة؛ لكن بشرط إغلاق مداخل ذلك الفساد، والمنع من تراكم ملفات أخرى مستقبلا ..

وبهذه الرؤية أيضا استطاع أن يفرق بين “واجب احترام الملك” و”رفض الانبطاح للمخزن”؛ وقد حذر مناضلي حزبه من الخلط بين الأمرين؛ كي لا يؤدي بهم ذلك إلى الذوبان الذي يجعل الحزب واحدا من تلك الأحزاب التي لا ترد يد لامس؛ فيفقد مصداقيته عند المواطنين ويفقد قبل ذلك رسالته الإصلاحية التي أُسِّس عليها من أول يوم ..

لقد قطع الأستاذ بن كيران أشواطا هامة في هذا المسار الإصلاحي الحكيم؛ الذي أعتبره توفيقا ربانيا للرجل مكنه من النجاح والتفوق على من سبقه من رؤساء الحكومات الذين كابدوا الإصلاح ..

وقد ضاق خصومه ذرعا بذلك النجاح المطرد؛ فانتقلوا من سلوكهم المعتاد في مساومته على ملفات معينة؛ إلى المساومة على أصل المسار الإصلاحي؛ فرفض ذلك بصرامة؛ لأن القبول به هو خيانة لأمانة كبيرة؛ هي آمال المغاربة الذين يحلمون بمغرب ينجح في كسب معركة الانتقال الديمقراطي ..

وهذه الخيانة تعني ذوبان المصلح في واقع الفساد الذي يحارب الإصلاح؛ وهو استسلام وانبطاح يستحيل معه شيئا آخر يفقده صفة: المصلح ..