من العمق

مقاطعة الانتخابات بدون رهان وليست بطولة

المقاطعة ليست بطولة، الدعوة للمقاطعة لها بريق لكنه خادع، من يتقمصون دعوتها شعبويون وبعضهم مغرور ولا يجيد سوى التجدر اللفظي، المقاطعة لها قوة نعم -ما لم تكن جزئية أو فردية-، أما وأنها كذلك فهي خادمة للفساد والاستبداد بالضرورة.

عادة ما يرفع المقاطعون سؤال الرهانات في وجه المشاركين في العملية رغم كل عيوبها البينة، لكن لما لا يطرح المقاطعون على أنفسهم سؤال ما رهان المقاطعة؟ ما أفقها؟ ما مداها؟ ما البرنامج الموازي لها؟ طبعا وعادة ما يكون الجواب عن هذه الأسئلة بلوك الكلام والهروب للأمام، والمحصلة أن لا رهان معلن لهم، وأنهم من منتظري تعفن الثمرة وسقوطها بشكل تلقائي، ومن متخذي موقف المتفرج على قوى وطنية إصلاحية مختلفة المشارب تتدافع من مواقع مختلفة مع الفساد والاستبداد، ليجد المقاطعون أنفسهم موضوعيا في صف مناهضي التغيير والإصلاح.

إن بعض المقاطعين ينتظر “المساء الكبير” حالة حزب النهج الديمقراطي أو “القومة” حال جماعة العدل والإحسان، والحال أن طبيعة النظام في المغرب وبنية المجتمع ومن خلال التجارب العديدة لا يسعف للتغيير بالضربة القاضية، بل إن معركة الإصلاح فيه تربح بالنقط والتراكم والتدرج، بل حتى بعض من تلك القوى تعلن أنها لا تبحث عن إسقاط للنظام أو انقلاب عليه وإلا فإن تجربة 20 فبراير كانت خير دليل على عدم قدرة أو رغبة القوى التي كانت فاعلة فيها على الصدام مع النظام، بعدما استنفذت الحركة أغراضها.

خلال هذه الحملة الانتخابية بدا واضحا أن صوت الداعين للمقاطعة كان جد خافت ومرتبك، لا تنسيق بين أصحابه ولا تظاهرات ذات بال، ولا مبادرات حية يمكن أن تحتسب بعيدا عن اتهام الإعلام العمومي الذي عادة ما تعلق عليه شماعة خفوت صوت المقاطعين، والجميع يرى ما يفعله ذاك الإعلام المقاوم للتغيير والإصلاح حتى بمن هم مشاركون في اللعبة.

المقاطعون فقدوا هذه المرة رافدا مهما وهو فدرالية اليسار الديمقراطي والأحزاب الثلاثة المشكلة له عكس سنة 2011 الذي كانوا فيه من أبرز نشطاء جماعة المقاطعين، عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية ارتفع من 11 مليون إلى 15 مليون حسب معطيات أم الوزارات، مما يؤشر على أن المسار يتطور في اتجاه المزيد من الإقبال على المشاركة، فكلما شعر المواطن أن صوته يذهب لمن منحه إياه، وأن ليس هناك من سيسرقه في الطريق ويغير مساره يقبل على المشاركة أكثر، ينضاف إلى كل ما سبق مستوى الوعي والاهتمام بالحياة السياسية والذي يسجل الجميع اتساع دائرته ومستواه من 2011 حتى يوم الناس هذا.

ضمن الأجوبة والتفسيرات التي قدمتها فدرالية اليسار وخاصة منها حزب المقاوم بنسعيد أيت يدر هو أن المقاطعة ليست مبدأ ولا يمكنها أن تكون اختيارا استراتيجيا، بقدر ما هي مشروع نضالي هدفه إعادة ترتيب قوانين اللعبة، كما أنه لا يمكن أن تكون العملية الانتخابية واللعبة السياسية فاسدة وتضفي الشرعية على الاستبداد كما يزعم المقاطعون، وأنها وبقدرة قادر ستصبح ذات معنى وأهمية بمجرد دخول أو إدماج جماعة ما أو حزب ما في تلك اللعبة.

لا تأثير للمقاطعة ما لم تكن واسعة، لا تأثير للمقاطعة وهي جزئية، لا تأثير للمقاطعة بدون برنامج مواز واضح ومعلن ومستمر على طول السنة، ولنتأمل تجارب الداخل والخارج ولنتتبع التاريخ طولا وعرضا، ولننظر كيف حصلت التحولات وكيف تطورت البلدان في اتجاه الإصلاح والديمقراطية هل بالتدرج أم بالزحف للقصر الرئاسي أو الجمهوري أو الملكي؟

لنقم بهذا التمرين ولنتخيل التاريخ الذي لم يقع ماذا لو كانت جماعة العدل والإحسان مشاركة؟ كم من مقعد ستحصل؟ كيف سيصبح البرلمان؟ كيف سيكون مستوى الوضوح في الساحة السياسية؟ وكيف سيصبح المشهد السياسي بحزب الجماعة إلى جانب فدرالية اليسار والعدالة والتنمية وجانب النهج الديمقراطي…؟ أكيد أشياء كثيرة ستتغير في المشهد ككل، والذي لا يمكن اختزاله طبعا في مجرد برلمان ومشاريع وقوانين لكنها بالتأكيد صورة لها أكثر من دلالة ومعنى.

طبعا للمشاركة عيوب ومخاطر يمكن أن تكتب حولها المجلدات لكنها بالنسبة للمؤمن بمنطق التدرج في الإصلاح، والإصلاح بالنقط والتراكم، والمؤمن بمنطق زرع الفسيلة ومنطق إشعال الشمعة بدل لعن الظلام، كل تلك العوائق تتحول إلى حوافز ولعلها هي من تعطي المعنى للإصلاح والمشاركة نفسها، فأي حاجة للحركات التغيرية إذا أصبحت اللعبة نظيفة وانتهى منها الفساد والاستبداد، وطبعا لا جدال في أحقية المقاطعين في المقاطعة وللمشاركين في المشاركة.

وعلى غرار ما أمتعنا به الشاعر المبدع تميم البرغوثي أستحضر مقطعا من قصيدته “أمر طبيعي” حينما قال “يا أمنا أنا لست أعمى عن كسور في الغزالة، إنها عرجاء أدري، إنها عشواء أدري، إن فيها كل أوجاع الزمان، وإنها مطرودة، مجلودة من كل مملوك ومالك، أدري ولكن لا أرى في كل هذا أي عذر لاعتزالك، يا أمنا لا تفزعي من سطوة السلطان، أية سطوة؟ ما شئت ولي واعزلي لا يوجد السلطان إلا في خيالك”.

جل تجارب الحركات التغييرية اليوم تجاوزت منطق المقاطعة لأنه يعني مما يعنيه العزلة والعنوسة والوقوف على الهامش واتخاذ موقف المتفرج، بل إن منطق عامة الناس في المجتمعات العربية التي تعرف اليوم نوعا من الانفتاح في الحريات ورغم كل مؤشرات التجهيل والتفقير والأمية فهي ذاهبة إلى تجاوز أصحاب المقاطعة رغم ما يقدمونه من تبريرات بخلفية فكرية أو سياسية.