وجهة نظر

أخلاقيات التواصل السياسي والديموقراطية وحقوق الانسان ½

1- المطلب الديموقراطي والحقوقي للتواصل السياسي

نشأ التواصل السياسي بالمفهوم المعاصر من زخم التطور الديموقراطية في المجتمعات الأوروبية، وفي ظل فلسفتها التي ذهبت بعيدا في احترام آراء الجماهير وتقديرها، وتحسب حسابها للرأي العام بل تخشاه أشد خشية! كان التقدير الكبير لأهمية التواصل السياسي في تلك البيئة لأنها تلتزم بالديموقراطية وحقوق الإنسان، وتجعل نصب عينيها احترام الرأي العام وتولي الأهمية في تأطير المجتمع للحفاظ على قوة التنظيمات السياسية والنقابية والجمعوية؛ لذلك يشعر جميع الفاعلين من الدولة والمجتمع المدني بالحاجة إلى الديموقراطيةكشرط أساسي للكرامة والعيش المشترك بين جميع أفراد المجتمع. تبعا لذلك، لا ينتظر من المؤسسات السياسية والإدارية التي لا تؤمن بالديموقراطية وحقوق الإنسان أن تحقق تقدما ملموسا في التنمية المستدامة.

على هذا الأساس المتين يجب النظر من المنظور الديموقراطي إلى مآل الدولة المغربية بعد الانقلاب على أول رئيس حكومة يعترف المغاربة، مؤيدين ومعارضين لسياسته، بكفاءته السياسة ومهارته التواصلية، ويوم أُغلق قوس الانتقال الديموقراطي بطريقة مهينة للإرادة الشعبية ولكل التواقين إلى الديموقراطية، وما تلاه من ممارسات تنم عن التراجع الخطير عن الديموقراطية والعمل على إفراغ العمل السياسي من المعنى الديموقراطي، بفرض حكومة وقوى وأجندة خارج نتائج انتخابات 7 أكتوبر رغما عن الإرادة الشعبية، والعمل على إضعاف وإهانة الأحزاب القوية وإفراغها من قيمتها التاريخية بالتعليمات “السيادية” أحيانا للتأثير في قراراتها، وبإشاعة نية التصفية كما حدث مع حزب العدالة والتنمية أحيانا أخرى، إن لم يقبل بقرار إعفاء رئيس الحكومة المعين وتعيين زميله في الحزب خلفا له، مع تحريك آلية من داخل الحزب لتحميل الأول مسؤولية أزيد من خمسة أشهر من “البلوكاج” ومحاولة النيل من سمعته ومصداقيته؛ كل ذلك أملا في تطويع وتدجين حزب استُعصي على الاختراق واعتُرف له بمستوى عال من الشرعية الحزبية وهي الديموقراطية الداخلية والاستقلالية الصارمة في قراره الحزبي، وسعيا إلى تنفيذ استراتيجية ومخطط الاختراق لتمويته بالتدريج وقطع صلته بالإرادة الشعبية التي أكسبته المشروعية الوطنية؛ لكن الرياح تجري إلى ما لا تشتهيه سفن الدولة.

وأما على المستوى حقوق الانسان والحريات العامة فقد سجلت هذه المرحلة تراجعات خطيرة تعود أشكالها إلى عقلية سنوات الرصاص نذكر من أهمها، على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر: الهجوم الأمني بنفس العقلية على المؤتمر الاستثنائي للاتحاد العام للشغالين بالمغرب التابع لحزب الاستقلال في قاعة المؤتمرات يوم 21 ماي 2017 فكان العراك مع قيادته فوق منصة المؤتمر بأساليب بالية، وتم قطع الكهرباء على المؤتمرين، فسقطت الروح والأخلاق السياسية، وساد السب والشتم وعبث الأمنيين؛ وقبله بأسبوع فقط يوم 14 ماي، شهد جميع المغاربة مهزلة بلاغ زعماء أحزاب الأغلبية في بيت رئيس الحكومة وبدعوة منه، قبل أن يتراجعوا عنه، أذاعته جميع القنوات الرسمية بالصوت والصورة يخوّنون فيه الحراك الشعبي في الحسيمة ويرمونه بالنزعة الانفصالية والارتباط بالخارج ودعمه المالي وتخريب الممتلكات العامة والخاصة؛ وهي خرجة ضربت من خلالها الدولة العميقة عصفرين بحجر واحد، الأول تحقيق الوعيد بعسكرة غير مسبوقة لإقليم الحسيمة؛ لكنها لم تُجدِ شيئا أمام إصرار الجماهير الحسيمية على التكاثف وسلمية مطالبهم المشروعة في مسيرتهم المشهودة يوم الخميس 18 ماي. والثاني هو الامعان في إهانة حزب العدالة والتنمية بإظهار رئيس الحكومة رهينة لدى وزير الداخلية السيدلفتيت الملقب بخادم الدولة. ومثال أخر يشهد له العالم الديموقراطي، وأمام ذهول أكاديميين دوليين قادمين من شتى الدول الأوروبية إلى قاعة الندوة بالرباط بعد استيفاء كل الإجراءات القانونية، هو توقيف السلطة يوم 13 ماي 2017 بطريقة فجة لندوة أكاديمية موضوعها التباحث في ماهية الملكية البرلمانية وحول الملكيات الأوروبية والمسار التاريخي لتطورها إلى أنظمة ديموقراطية وهل يمكن أن تصير الملكيات العربية ديموقراطية؟ لقد مُهّد لهذا كله، خلال الإعداد للانقلاب على المسار الانتقال الديموقراطي، بحدثين مثيرين للجدل في حقوق الانسان أحدهما اعتقال شباب فيسبوكيين من حزب العدالة والتنمية، على إثر بلاغ مشترك بين محمد حصاد وزير الداخلية ومصطفى الرميد ووزير العدل آنذاك، بتهمة الإشادة بالإرهاب، بسبب تدوينات لا مقدمة لها ولا نتائج إرهابيةعقبإشادتهم العاطفية بمقتل السفير الروسي بتركيا، ليتابعوا بقانون الإرهاب بدل قانون الصحافة؛ والثاني هو الاعفاء غير القانوني لعشرات من الأطر الإدارية من مهامهم بخلفية انتمائهم أو تعاطفهم مع جماعة العدل والإحسان.

ظنت الدولة العميقة أنها، بالعودة إلى هذه السلوكات والخروقات الصادمة للقوى الديموقراطية وحقوق الانسان، تستطيع أن تستعيد مجدها الاستبدادي وتوقف مسار تحول الوعي المجتمعي؛ مما أدى إلى عدم الرضى الشعبي بهذا التحول المفاجئ وتزايد التعبيرات وردود الأفعال المعبرة عن فقدان الأمل في الاصلاح والمطالبة بحقوقها عن طريق احتجاجات متواصلة يوما بعد يوم.

إذن، يبدو أننا في المغرب لم يعد مقبولا الرجوع إلى الوراء. إن قضايا الديموقراطية والحريات العامة ونشر قيم الحرية والمساواة وسيادة دولة الحق والقانون تفرض نفسها على ساحة التواصل السياسي، وأضحت على رأس أولويات المطالب والممارسة السياسية في المغرب. هناك ارتباط وثيق بين الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة والمصالح الاستراتيجية من جهة والديموقراطية وحقوق الانسان وما تنطوي عليه من التزامات وواجبات على نظام الحكم والأحزاب ومختلف الهيئات وجميع المؤسسات من جهة أخرى.

(يتبع)