منتدى العمق

تعاون جيوب جيوب

منذ مطلع الألفية الثالثة، اتخذت القيادة السياسية قرارا استراتيجيا للانفتاح على القارة السمراء، و عدم الاكتفاء بالتكتيك القديم : شراء ولاءات رؤساء دول صغيرة، تكوين كفاءات إفريقية داخل المغرب…

الانفتاح بدأ بالقوة الناعمة ألا وهي الدين، حيث وجدود المدرسة الصوفية المغربية في عديد بلدان إفريقية. بعد ذلك تحول التوجه تدريجيا للاقتصاد بالتوازي مع البعد الصوفي الديني. فكان أن اندمجت الشركات المغربية في مشاريع ذات طابع اجتماعي في القارة السمراء: بناء شقق اقتصادية على شاكلة الموجودة في المغرب، تقديم الخبرة في مجال محاربة دور الصفيح، المساهمة في مشاريع للبنى التحتية و المستشفيات…

نقلة نوعية كانت سنة 2014 حيث قام الملك محمد السادس بجولة إفريقية ظهر فيها التأثير الكبير لمؤسسة إمارة المؤمنين، و حضور هذا المفهوم لدا كثير من سكان بلدان القارة الإفريقي. حتى أن الرئيس النيجيري السابق “جنتان كود لاك” ادعى، في حملته الانتخابية ضد الرئيس الحالي محمد بخاري، أنه تلقى دعما من ملك المغرب أمير المؤمنين، لجدب تعاطف و أصوات أكثر من نصف سكان البلد المسلمين. سكان يكنون مشاعر دينية و روابط متينة مع مفهوم إمارة المؤمنين.

القوة الناعمة للمغرب، غير المتوقعة، أغضبت الأم فرنسا، خصوصا لتزامنها سنة 2014 مع عزم المغرب تنويع شركائه بالاتجاه صوب روسيا و الصين. فرنسا أمام هذا الخليط تحركت و افتعلت أزمة مع المملكة. جردت وزير الخارجية “صلاح الدين مزوار” من حدائه للتفتيش في مطار باريس، و وصفت خارجيتها المغرب ب”العشيقة التي نضطر للنوم بجانبها حتى لو لم نكن نحبها”، و بعثت النيابة الفرنسية استدعاء لمدير المخابرات

المغربية “عبد اللطيف الحموشي” للتحقيق في مزاعم تعذيب.
الأزمة استمرت سنة، كانت كافية لرسم دور فرنسا فيما بعد التوغل الإفريقي، إضافة لوضع حدود لأي نفوذ روسي أو صيني في مجال فرنسا الحيوي: المغرب.
التوجه الإفريقي للمملكة المغربية، الذي أطلقت عليه تسمية “تعاون جنوب جنوب”، و إستراتيجية “رابح رابح”، عاد للواجهة مطلع سنة 2017، لكن بزخم أكبر، و تأثير داخلي و خارجي أوسع.

جولة للقيادة السياسية في القارة الإفريقية استمرت أشهرا، تخللتها استراحة، للاضطلاع على تشكيل حكومة، كانت ولادتها عسيرة عقب عرسي انتخابي فاز به حزب العدالة و التنمية. فوز اكتنفته جدالات بين وزارتي الداخلية و العدل بزعامة الوزير السابق مصطفى الرميد. وزير العدل اختار أن يكون إلى جانب رئيسه في مقر الحزب ساعة إعلان النتائج من مقر وزارة الداخلية، حيث قطرت الأخيرة الشمع على حزب المصباح.

عودة للجولة الإفريقية، فقد طبعها جانب اقتصادي ضخم و انفتاح على شركاء غير تقليديين، بل و خصوم سابقين.

المغرب عقد صفقات ضخمة مع البلد الناشئ و الواعد إثيوبيا، التي و رغم التصاق اسمها بالمجاعات، فهي تعرف تغيرات نوعية في بنيتها الاقتصادية، حيث قدر خبراء أن نمو اقتصادها في السنوات العشر الأخيرة سيتضاعف بمرات عدة.

المغرب عقد صفقة مع الجانب الإثيوبي لبناء ما وصف بأكبر محطة أسمدة في القارة الإفريقية، لمواكبة اشتغال أكبر سدود إفريقيا ( سد النهضة)، الذي شارف تشييده على الانتهاء. سد كان لإسرائيل دور كبير في التخطيط لإنشائه و تنزيله على أرض الواقع ل” ضرب أمن مصر المائي” على زعم محللين.

المملكة انفتحت على الخصم السابق نيجيريا، فعقدت معها اتفاقية “رابح،رابح”. الرابح الأول هو البلد الإفريقي الأكبر سكانا و الأضخم ثروات، لكن الأفقر بنية اقتصادية و اجتماعية. نيجيريا وقعت مع المملكة اتفاقا لتشييد مصانع للأسمدة بشراكة و خبرات المكتب الشريف للفوسفات.

الرابح الثاني، قيل أنه المغرب، حيث سيغدو بلد عبور لأنبوب غاز يمر من اثني عشر دولة، يفتح له الباب واسعا للخروج من عزلته الإفريقية و الانضمام لتكتل دول غرب إفريقيا بسوق تقدر ب320 مليون نسمة.

الجولة الإفريقية شملت كذلك أبعادا إنسانية وثقافية بزيارة تنزانيا بلد الثقافة والأدغال، ومنح خبرات المغرب للدولة المنفصلة عن السودان حديثا “جنوب السودان”. حيث أعلن وزير التعليم الحالي والداخلية السابق، محمد حصاد، عن دراسة بتمويل مغربي في حدود 6 ملايين دولار، لإنشاء عاصمة جديدة للبلد الإفريقي الوليد.

المغرب قدم هبات ” إنسانية” لدولة جنوب السودان أغذية و أفرشة، قبل أن يغادر، و تعلن جوبا عاصمة البلد نفسها بلدا منكوبا معرضا لمجاعة.

هي خلاصة سريعة لجولة إفريقية اكتست الطابع الواقعي و الاقتصادي لإعادة رسم خريطة القارة السمراء جيو سياسيا، بتموضع المغرب فاعلا رئيسا بالاقتصاد أولا، و بالقوة الناعمة: الدين و الروابط الإنسانية ثانيا.

لكن المواطن المغربي، و من زاوية المشاهد من الداخل، لاحظ في المشاريع السخية التي أغدقت على إفريقيا، احتكار زمرة صغيرة لكافة الشراكات، من رجال أعمال و مسئولين ماليين و اقتصاديين، و وزراء ثابتين راسخين في أماكنهم.

في الوقت التي كانت حكومة الشعب المنتخبة مشلولة تنتظر التوافق لتشكيلها، كانت صفقات بمليارات الدولارات تعقد بوزراء من المفترض أنهم “مؤقتون”، فلا يجب أن يوقعوا اتفاقا يلزم حكومة قد لا يكونون جزئا منها. هذا هو المفترض بمنطق السياسية و الديمقراطية، فحتى لو كانت أهداف الدولة ثابتة، فإستراتيجية التطبيق تختلف من حزب لآخر، و من وزير لآخر. قد يحدث هذا في فرنسا أو بريطانيا، لكن ليس في أجمل بلدان العالم !

نخبة رجال أعمال محظوظة احتكرت الكعكة الإفريقية إلى جانب الوطنية. نظرات رئيس جنوب السودان لوزير الفلاحة المغربي ،و هو يودعه في المطار، أكبر من نظرات احترام دبلوماسي. كانت كمن يقول للآخر ” راني معول عليك” ! و لا نعول إلا على من نظن أنه معمر، و هو ما كان.

أنس الصفريوي عن شركة الضحى، عزيز أخنوش الملياردير و الوزير الثابت غير المتزحزح و صاحب مفاتيح خزائن صندوق “مافراسيش” لتنمية العالم القروي، الملياردير عثمان بن جلون الذي فاز بصفقة خصخصة البنك المغربي للتجارة الخارجية سنة 95، و رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب ” مريم بن صالح شقرون”، المرأة الحديدية التي رفضت زيادات بسيطة أقرها بنكيران لعمال بسطاء بحجة أنها تضعف تنافسية الشركات المغربية…عينة وجوه اعتاد المغاربة رؤيتها و هي تتبادل الأدوار و الكراسي في كل زيارة إفريقية لتوقيع تفاهم “أ ” أو اتفاقية “ب”.

نخبة احتكرت الكعكة الاقتصادية خارجيا، قبل أن ترجع و تؤكد حضورها داخليا.
المشاريع الكبيرة، التي يطلق عليها في المغرب “الأوراش الكبرى”، كمخطط المغرب الأخضر و المغرب الشمسي لا أحد يعرف كيف تمرر صفقاتها في ظل غياب لمجلس المنافسة. المؤسسة الدستورية التي لا تملك حاليا سوى رئيس موقوف المهام، لا يظهر إلا عند استعراض المؤسسات الدستورية أمام ضيوف المغرب الكبار.

مؤسسة لو وجدت ما تألم المغاربة و هم يرون محطات توزيع المحروقات توحد أسعارها رغم أن الخام الدولي في الحضيض، أو شركات الاتصالات تتفق سرا على “تحييد السعر”، فتتنافس في محاور أخرى كالعروض، لكن ثمن المنتج و الخدمة يبقى ثابتا.مجلس كان سيضرب بيد من حديد وسطاء السمك و المواد الأساسية، حيث يصل العدس سقف الثلاثين درها متجاوزا سعر الحديد، بينما يصل السردين 25 درهما في طنجة، و يباع في جارتها إسبانيا، المكترية لسواحلنا، ب 10 دراهم !

الكل تفاجأ بانتقال ملكية أغلب أسهم شركة الاتصالات “ميديتيل” المملوكة لعثمان بنجلون لشركة أورونج الفرنسية. معلومة لم يسمعها المغاربة من جهات حكومية أو اقتصادية بحكم قانون الحق في المعلومة، بل وصلتهم عبر حملات دعائية مكثفة: “ميديتيل ولات أورونج”.

قانون الحق في المعلومة خرج و “يا ريته ما خرج” على قول المصريين. قانون تختصر فاعليته في بند واحد: “إذا لم يمدك أي موظف أو جهة حكومية بمعلومة عن حسن نية أو نسيان، فلا إثم عليه”. عندما يترك تنفيذ القانون للنوايا الحسنة فعلى الدنيا السلام.
الملياردير بن جلون، باع شركة ميديتيل ليحول أموالها لاستثمار أنجع و أضمن: مدينة طنجة الصناعية التي سيمولها بنكه بشراكة مع التنين الصيني و السياسي الذي يجيد التقلب يمينا و يسارا، رئيس جهة طنجة تطوان الحسيمة : إلياس العماري. متى انطلقت طلبات عروض المدينة الصناعية؟ من تقدم لنيلها؟ ما شروط الفوز بالصفقة؟ معلومات إن وجدت لا يعلمها إلا ذو حظ عظيم.

و لأن المال (البنية التحتية) لا بد له من بنية فوقية تحميه، فقد وضع الملياردير “أخنوش” رجلا في إفريقيا و ضيعات المغرب الكبيرة، و “بزولة” دعم المحروقات التي لا تنفد، و رجلا في مجال السياسة و تسيير الشأن العام. الملياردير ألسوسي، و طوال فترة التجول في أدغال إفريقيا، كان يسرق “أياما” ليأتي و يلتقط صورا مع رئيس الحكومة المعين آنذاك عبد الإله بنكيران، إيهاما للرأي العام بجهود تبدل لترجمة أصوات الناخبين حكومة ممثلة للشعب.

الواقع أن السيد أخنوش ما كان يخرج عن مطلبين اثنين في كل زيارة خاطفة للوطن: التأكيد على شرط عدم نزع “بزولة” الدعم عن ضيعات و شركات الكبار فيما يخص الغاز، و هو مالك الغاز و البنزين بإمبراطورية أفريقا. و الشرط السياسي الذي كان سينزع من بنكيران أغلبية هشة، ليضعه رئيس حكومة ” صوري” أكثر مما هو صوري: إدخال المحنك لشكر من نافدة الزعيم “عزيز”.

في أحلك أيام “البلوكاج” السياسي، و لكثرة إلحاح الصحافة على بنكيران، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء: مع من سأتفاوض؟ الرؤوس الكبيرة كلها كانت تتجول في القارة السمراء.

زواج السلطة بالمال على طريقة فرعون وقارون، و بتغطية من أبواق التلفزيونات و الجرائد المنتعشة بإعلانات مدفوعة الأجر، كما كان هامان و السحرة يغوون الناس و يصورون العصا أفعى تسعى.

توضح للمغاربة في أي منحى تسير إستراتيجية تعاون جنوب جنوب، حيث الكعكة تكبر لكن عدد المدعوين ثابت. الاقتصاد ينمو، لكن ملامحه لا تظهر إلى على وجوه نخبة قليلة محظوظة. ليبقى السؤال العريض الذي حير المغاربة سنين عددا: أين الثروة؟ مفتوحا لأجل غير مسمى.