منوعات

بويخف يكتب: العمري .. استقالة شخص أم مقدمة زلزال سياسي؟

السيد العمري يستقيل من أمانة حزبه، ويقول إن ذلك “عقاب ذاتي” عن فشله في منح التزكيات سواء للمنتخبين الجماعيين او البرلمانيين، وشدد على أن استقالته شخصية، ليس ورائها طلب لا من أعلى ولا من أسفل، ويقول إنه ليس “خماسا” عند أحد، ولا يبحث عن الحضور الاعلامي. وهذا الكلام عادي لو تعلق الأمر بحزب طبيعي أو بشخص واضح تدور عربته دائما في الاتجاه الذي تعلنه أضواؤها الخلفية. لكننا بصدد حزب استثنائي في كل شيء، في ميلاده ورعايته، وفي تطوره، وفي أهدافه وغاياته. ويتعلق بشخص تقلد الأمانة العامة لذلك الحزب بطريقة كانت في قمة الاستثنائية. لذلك فالمبررات الشخصية التي أعلنها السيد العمري في الندوة الصحافية التي عقدها لهذا الغرض، قد تكون صحيحة لكن دون أن تكون هي الراجحة. لذلك ينبغي وضع تلك الاستقالة في السياق السياسي الذي تكرس بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. وفي سبيل ذلك تثار أسئلة كبرى منها: هل يتعلق الأمر بمخاض في مربع السلطوية يجد له انعكاسات طبيعية في حزبها بعد فشله السياسي على أكثر من صعيد؟ أم يتعلق فقط بمخاض صراع داخل حزب التحكم حول ادواره المرحلية الجديدة؟

السياق الداخلي لحزب الجرار الذي قدم فيه العمري استقالته سياق فتح فيه الحزب تقييما شاملا لأداء “البام”، وقد يكون تقديم الاستقالة “تفهما” من العمري لرسالة ذلك التقييم. لكن السياق السياسي الخارجي أيضا يفرض على حزب الأصالة والمعاصرة أن يجري تعديلات هيكلية تناسب المرحلة، وتسمح ببعض الاستدراكات التكتيكية في حجم الخسائر السياسية على المستوى الاستراتيجي التي منيت بها السلطوية بسببه، خاصة وأن الحزب فشل في تحقيق الأهداف السياسية المركزية التي من أجلها أسس من أول يوم قبل قرابة عشر سنوات، وأن الحزب في عهد السيد العمري كان موضع استثمار سياسي هائل وغير مسبوق هذرته السلطوية، وهو استثمار كان عائده السياسي لحزب السلطة في المعارضة عائدا سلبيا كبيرا ازداد فضاعة بأحداث الحسيمة.

في جهة الشمال التي قال عنها كثير من الملاحظين إنها صنعت على مقاس حزب السلطوية، فشل حزب الجرار فشلا ذريعا في القيام بالأدوار المطلوبة منه سلطويا في تأطير المواطنين والمساهمة في امتصاص غضبهم، وفي التخفيف من حدة احتجاجاتهم التي أعادت أجواء “20 فبراير” سنة 2011 على المغرب من جديد، وهي أجواء تعد أخطر شيء يتهدد السلطوية بالمغرب وتخشاه. بل الأكثر من ذلك أن أهم أسباب حراك الريف وأحداث الحسيمة ترجع إلى الفساد والهشاشة على الصعيد المحلي، والتي لم يقدم حزب الجرار في سبيل مواجهتها العملية أجوبة مقنعة، مما افقد الاعتبار للأحزب كلها، والمؤسسات المنتخبة التي يهيمن على أغلبها. وبذل تحمل المسؤولية بالنزول إلى الميدان، والاعتراف بالتقصير، والكشف عن ساعد الجد في التعويض عنه وفي حماية المواطنين سياسيا تجاه الاتهامات الرخيصة والخطيرة التي كالتها لهم السلطوية وأبواقها الإعلامية، ومن سوء توظيف مطالبهم ونضالاتهم، انسحب منتخبوه ليعطوا لحزبهم حجما قزميا في المشهد الحزبي في الوقت الذي يعتبر الحزب المهيمن على الشأن المحلي في الجهة والذي يفترض أن المواطنين هم من وهبوه أصواتهم برضاهم واختيارهم الحر. وحزب الجرار في تدبيره لملف الحسيمة خيب آمال السلطوية من جديد وظهر في مستوى لا يرقى إلى مستوى الاستثمار السياسي الذي بذلته السلطوية في سبيل التمكين له في دواليب السلطة.

فشل حزب “التراكتور” في ملف الحسيمة ليس إلا آخر مثال من حيث كلفته السياسية الباهظة على السلطوية، فقرابة 10 سنوات من الاستثمار السياسي في حزب الجرار كانت حافلة بالخيبات السياسية من وجهة نظر السلطوية وانتظاراتها من حزبها الجديد. فالسلطوية رهنت سعة هامش الحريات والديمقراطية في المغرب عموديا بإضعاف الأحزاب الديموقراطية التي خرجت من رحم الشعب، وأفقيا بقطع الطريق أمام حزب العدالة والتنمية الصاعد في ولوج المؤسسات المنتخبة والتمكين بذل ذلك لحزبها “الوافد الجديد”. وإذا كانت السلطوية قد نجحت في الإضعاف الممنهج والمتدرج لباقي الأحزاب الديمقراطية، بل والانتهاء إلى تدجين ” الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” ، والعمل على تدجين حزب الاستقلال أو تقسيمه، فإنها فشلت لحد الساعة في إضعاف حزب العدالة والتنمية، رغم أن انفلاتات الجدل الداخلي الأخير في حزب المصباح اوشكت أن تحقق ما فشلت السلطوية في تحقيقه طيلة عقد من الزمن تقريبا. وفي المقابل، ورغم كل الاستثمار السياسي الذي حظي به (وضمنه مسيرة العار المعروفة إعلاميا بمسيرة ولد زروال)، فشل حزب الجرار في أن يلعب دور “قاطع الطريق” أمام حزب المصباح. وجرت رياح الديمقراطية بما لا تشتهيه سفن التحكم، سواء سنة 2011 بفعل حراك “20 فبراير” ودستوره الجديد، او خلال سنة 2016 بفعل قوة شعبية حزب المصباح، ليبق حزب السلطوية في المعارضة من جديد، وهو وضع لا يمكن لأي “مستثمر” في السياسة تحمله.

لقد أبان السيد العمري كشخص عن عجزه الفج في تحقيق الأهداف المرجوة منه على مستوى الخطاب السياسي، فمند الارهاصات الأولى لمشروع السلطوية في مواجهة حزب العدالة والتنمية، كانت السلطوية تبحث عن حزب يمتلك مواصفات يستطيع بها على الأقل إنشاء توازن مع حزب المصباح الصاعد، ومن تلك الخصائص الخطاب السياسي القوي. واختيار السيد العمري، كما أكد ذلك أكثر من متابع حينها، تم فرضه بالطريقة التي تابعها العالم عبر اليوتوب، لكونه شخص يمكن أن يحدث التوازن المطلوب مع الأمين العام لحزب المصباح الأستاذ ابن كيران، وتابع الجميع كيف أن مواجهة “جبل في التواصل السياسي”، مثل ابن كيران، لم تنجح معه قط خطابات من قبيل “المغرب جبل” الشهيرة والتي اثارت الاستهجان والسخرية على اوسع نطاق. كما أن العمري، الذي تحدث كرئيس حكومة مقبل خلال الحملة الانتخابية، نحا مند إعلان النتائج منحا داخل الحزب يفهم منه أنه لم يعد يصلح للقيادة، وقام بردود فعل غير مفهومة، لذلك فحصة العمري في الفشل وازنة، وربما قد يكون أحد المقصودين بعبارة ” ومما يثير الاستغراب، أن من بين المسؤولين، من فشل في مهمته.

ومع ذلك يعتقد أنه يستحق منصبا أكبر من منصبه السابق”، التي وردت في خطاب العرش، وجاءت استقالته منسجمة مع روح ذلك الخطاب..
ما سبق يؤكد من جهة أن الصلاحية السياسية للسيد العمري لذى السلطوية انتهت، ويؤكد من جهة ثانية أن السلطوية دخلت في تكتيكات سياسية كثيرة تقضي باستعمال كل “ترسانتها الحزبية” في المرحلة الجديدة، وفي ظلها يطرح السؤال عن الأدوار التي يراد لحزب البام لعبها في ظل حكومة الدكتور العثماني؟

إنه من غير المنطقي أن تستمر السلطوية في الهذر السياسي لجهودها بحزب في موقع المعارضة لحكومة تهيمن على نصيب وازن لها فيها. وأيضا من غير المنطقي أن تدع نفس الحزب الذي استثمرت فيه بشكل غير مسبوق ينفجر من الداخل، حيث وجد جيش من الأعيان والانتهازيين الذين عبأتهم السلطوية للترشح في ذلك الحزب ودعمه أنفسهم في “ورطة” حزب لا يمكن أن يحقق شيئا مما وعدوا به او طمعوا فيه، والقوانين تمنعهم من الترحال إلى أحزاب السلطوية الأخرى، خاصة بعد الأدوار المغرية لهم والتي لعبها حزب الحمامة بزعامة السيد أخنوش. لذلك من المنطقي أن تسعى السلطوية اليوم إلى إيجاد “تخريجة” مرحلية تخفف بها من خسائرها وتحافظ على قاعدتها من خدامها من الأعيان والانتهازيين.

ما سبق يطرح فرضية منطقية في أوساط الأحزاب الإدارية والأحزاب التي تم تدجينها، وهي أن الديناميكية الداخلية التي يعيشها حزب الجرار اليوم لها أبعاد تتجاوز مجرد استقالة شخص إلى طرح السؤال حول ما هي الأبواب التي سيفتحها قبول استقالة ذلك الشخص؟

إن أقرب “تخريجة” ممكنة لورطة السلطوية في حزب الجرار تدور حول ثلاثة محاور كبرى. المحور الأول يتعلق بإحداث تغييرات في حزب التراكتور على مستوى الرموز والخطاب تجعله أقل إثارة لحساسية حزب المصباح الذي استعصى حتى الآن عن التدجين ويزداد قوة، خاصة وأن بعض قيادات “البجدي” قد فضلت في تصريحات سابقة تولي شخصيات معينة قيادة حزب التراكتور بدل إلياس العمري، وتم الحديث بالإيجاب حينها عن السيد أخشيشن وعن السيد بيد الله مثلا. كما ان الملك في استقباله للدكتور العثماني أكد له رغبته في العمل مع حزب البجيدي. المحور الثاني يتعلق بالاشتغال على إيجاد شروط الإدماج السلس والمستعجل لحزب التراكتور في صيغته المعدلة الأقل استفزازا وتناقضا مع حزب المصباح في أي “حكومة” يقودها او يشارك فيها حزب العدالة والتنمية.

المحور الثالث، هو نتيجة للثاني وفيه خياران الأول يتعلق بالاشتغال على فرض “حزب الجرار المعدل” على “حكومة العثماني” بطريقة ربما تعيد فيها السلطوية نفس المنهجية المعتمدة مع حكومة الأستاذ ابن كيران سنة 2013 او من خلال “بلوكاج” ما جديد. غير أن نجاح السلطوية اليوم في ذلك دون المس بالاستقرار السياسي للبلاد يفرض إما إضعاف حزب المصباح دون تفجيره، أو الدخول عليه من باب “الإرادة الملكية” او “المصلحة العليا للوطن” لانتزاع الضوء الأخضر من القيادي الأكثر تأثيرا داخل الحزب والأكثر رفضا لحزب الجرار وهو الأستاذ ابن كيران. وإذا فشل ذلك الخيار فالخيار الثاني هو أن تخوض السلطوية بـ”حزبها المعدل” انتخابات مقبلة (عادية او سابقة لأوانها) باستراتيجية تواصلية تتفادى “خطأ” موقعة حزبها كنقيض لحزب المصباح الذي ما يزال يتمتع بشعبية كبيرة، ويحسن توظيف تناقضه مع حزب الجرار في الخطاب السياسي، وخاصة إذا أعيد انتخاب الأستاذ ابن كيران لولاية ثالثة.

إن قيمة الاستثمار السياسي الضخم الذي وضعته السلطوية في حزب الجرار دون عائد سياسي، عنصر أساس في فهم وتوقع سلوكها السياسوي. والاستثمار السياسي في حزب الجرار بلغ مستويات حرجة وخطيرة تجعل إمكانية انتظارها مرور الولاية التشريعية والحكومية الحالية بشكل عادي أمرا مستبعدا، سواء قبلت استقالة إلياس العمري او رفضت بتوافقات داخلية مناسبة، مما يرجح احتمال التدخل من جديد، وفق سيناريوهات قدمنا في الفقرة السابقة بعضا منها، لإعادة “خلط اوراق اللعبة” من جديد بما يضمن لها الاستفادة القصوى الممكنة من استثماراتها السياسية الضخمة في حزب الجرار.