منوعات

العلام يكتب: مشكلة الشباب: هل مع السياسة أم الأحزاب؟

يحدُث أن بعض النقاش السياسي أو الفكري، يقع في تعميم يفيد بأن الشباب المغربي ينفر من السياسة ولا يهتم بالشأن العام، وأنه بسبب ذلك، يستحقّ واقعه، ولا لوم إلا على الشباب لأنهم يرفضون المشاركة في الحياة السياسية.

لكن هذا التقرير يبقى حكم قيمة، يحاول التغطية على العديد من المعطيات الدالّة، مادام لا يُميّز بين العزوف عن السياسة والنفور من العمل السياسي من خلال الواجهة الحزبية.

فإذا ما أردنا الحديث عن مغادرة الشباب للعمل الحزبي، فإن ذلك أمر حاصل وهو واقع لا يأبى أن يرتفع. وقد ساهمت عدة عوامل في هذا التحول من المشاركة المكثفة في الحياة الحزبية إلى الغياب شبه التام، إذ من المعلوم أن الشباب كان هو النواة الصلبة لقيام الحركة الوطنية، فالذين وقّعوا على وثيقة الاستقلال كان جلهم ينحدر من فئة الشباب وأغلبهم ولد بعد سنة 1910 (علال الفاسي، الوزاني، بن بركة، عبد الله ابرايهم …)، وهم أنفسهم الذين أسّسوا أحزاب الحركة الوطنية (الاستقلال، والشورى والاستقلال…) يكفي أن نعرف مثلا أن علال الفاسي كان عمره لا يتجاوز 34 سنة عندما تزعم حزب الاستقلال، وبعد الاستقلال تزعم الشباب الحملة (الانتفاضة) التي رامت إصلاح العمل الحزبي ودَمقرَطته، وعندما أعيتهم المحاولة اتّجهوا إلى تأسيس أحزاب أخرى أكثر شبابية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مثلا).

وهكذا استمر الشباب في صُلب العملية السياسية، واستطاعوا تحقيق مكاسب كبيرة لصالح العمل السياسي المغربي. لكن حصل أن العمل الحزبي، خاصة المنحدر من الحركة الوطنية، لم يقوَ على تحقيق أهدافه التي تأسس عليها أيّام الشباب، فشبابه المؤسسون أصبحوا هم الكهول في العصر الراهن، حيث لم يحدث تجدد على مستوى القيادة، وهو ما ساهم في ضعف القدرة على فهم مطالب شباب الجيل الحالي.

ساهم عامل آخر في نفور الشباب من العمل السياسي الحزبي، وهو المتعلق بمسألتي الثقة والمصداقية، فالشباب عندما بادروا إلى الالتحاق بالعمل الحزبي، كان دافعهم الأساسي هو المحاكاة، نظرا لوجود القدوة السياسية، حيث كانوا يَجدِون فيمن يمتهِن العمل السياسي المصداقية والنزاهة اللتان يُعدّان المغناطيس الجاذِب للانخراط في العمل الحزبي، وهذا الأمر أصبح، للأسف، في عصرنا الحالي شبه غائب، حيث تسيّدت الانتهازية وتحوّلت الأحزاب إلى أداة للتسلّق الطبقي، واقترنت بالمحسوبية وعدم النزاهة.

أما العامل الثالث، فهو يتصل بكون طموحات الشباب المغربي قد تجاوزت بشكل كبير ما تُلبّيه الأحزاب، فالشباب الذي لديه وعي سياسي لم يعد مقتنع ببرامج الأحزاب الموجودة إما لارتباطها بالسلطة، أو لانتهازيتها، أو لمحدودية مطالبها، أو لإفراطها في الأدلَجة. فبخصوص النقطة الأخيرة، يبدو أن عموم الشباب أصبح يتهيّب من المسألة الأيدليوجية، وهذا الأمر لا يقتصر على شباب المغرب بل قد يكون حالة عامة بفعل غياب الطابع الأيديولوجي في الصراع العالمي عكس ما كان عليه الأمر قبل عقود، ولكون أغلب الأدلوجات قد تكسّرت على صخرة التجربة.

هناك عامل رابع يتعلق بمستوى التعليم وإرادة الفعل لدى بعض الشباب، ووجود بعض البدائل و بعض المتبّطات، وهذا العامل ناتج عن العوامل السالف ذكرها، لكن هل يمكن اعتبار الشباب المغربي غير مؤهل بما فيه الكفاية للانخراط الفعلي في العمل السياسي؟

هذا السؤال هو ما استدعى التمييز في بداية المقال بين العزوف عن المؤسسة الحزبية وبين المشاركة والوعي السياسيين، إذ في المِكن القول، بأن عموم شباب المغرب يمتلك وعيا سياسيا، ويشارك في الحياة السياسية كلما توافرت فرصة لذلك، فرغم وجود عزوف حزبي، إلا أن هناك مظاهر للمشاركة السياسة نلمسها لدى الشباب الذي فضّل ممارسة السياسة خارج المؤسسة الحزبية، تجلى ذلك مثلا في الانخراط في حركة 20 فبراير، وتبادل الآراء على مواقع التواصل الاجتماعي، والمشاركة في هيئات المجتمع المدني سيما المستقلة عن السلطة.

وهكذا، فإن مقولة “الشباب عازف عن السياسة”، هي مقولة مضلّلة نوعا ما. مضللة لأنها تُقدّم إجابات سهلة للباحثين والمهتمين، وتمنعهم من البحث في المضمون السياسي الذي يرتئيه الشباب كشرط للمشاركة في الحياة السياسية عبر المدخل الحزبي. فمثلا لا يمكن بأي حال من الأحوال الزعم بأن الشباب يمتنع عن المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات فقط لأنه غير مبالٍ، بل ربما تكون مقاطعته لهذه الأشكال هي من صميم وعيه السياسي. ويبقى سؤالا قائما يحتاج إلى تحرير وهو الذي يتمحور حول كيف يمكن تشجيع الشباب المغربي على الانخراط في العمل السياسي وما هو دور الاحزاب السياسية في هذا السياق؟

من خلال الملاحظة والبحث، ومن خلال التجربة، يصعب أن نعول على الأحزاب الموجودة في الساحة (سيما المشاركة في اللعبة السياسية)، في إعادة ثقة الشباب في المؤسسة الحزبية، بل ربما لن تزيد هذه الأحزاب الشباب إلا نفورا منها، والبحث عن بدائل أخرى من أجل تصريف مواقفها. فالمؤسسة الحزبية بما هي وسيط بين المجتمع والدولة، أضحَت عاجزة عن القيام بمهمّتها، خاصة في ظل التنازلات التي أقدمت عليها الأحزاب التي شاركت في الحكم بعد سنوات من المعارضة، إضافة إلى مسلسل الفضائح الذي ارتبط بممثلي هذه الأحزاب أثناء مزاولته لعملهم الحكومي أو التمثيلي.

لذا، فإن المعول عليه لحفْز الشباب على العودة إلى ساحة الفعل السياسي، سواء من خلال تأسيس أحزاب جديدة، أو المشاركة في أحزاب قائمة، هو المجتمع المدني الذي عليه أن ينخرط في مسلسل توعية الشعب بضرورة الاهتمام بالسياسة وعدم ترك الطبيعة للفراغ، فكما يقول أفلاطون: “الثمن الذي يدفعه الطيبون بانسحابهم من الشأن العام هو أن يحكمهم الأشرار”، فالتركيز على قيَم التضامن والمؤاخاة، وإحساس المواطن بأنه شريك في الوطن حكما وتقريرا، هو ما سيساعد على بعث الروح في عالم السياسية. ولأجل ذلك ينبغي على المواطن أن يشعر بأن ممتلكات ومرافق الدولة هي ممتلكاته ومرافقه، وأن الحاكم هو أجير عند الشعب، ويسهر على توفير حاجياته. تحضرنا هنا قصة معبرة يمكن أن نجعهلها خاتمة لهذا المقال لأنها تحمل الكثير من المعاني والدلالات.

ففي سنة 1957، أي بعد سنة على إعلان الاستقلال السياسي، ولأن المغرب كان بحاجة ماسة للبِنيات التحتية، ولأن الحكومة التي تشكّلت آنذاك (حكومة البكّاي الأولى) لم تكن قادرة على توفير كل المتطلبات، تفتّقت عقلية الشهيد المهدي بن بركة (الذي كان يرأس المجلس الاستشاري)، فأقترح بناء طريق تربط بين المنطقة الشمالية التي احتلّتها اسبانيا، والمنطقة الجنوبية التي احتلّتها فرنسا (بين تاونات وكتامة)، وذلك بشكل تطوعي ودون أي أجر يحصل عليه العمال…فلِشق هذه الطريق الوعرة التي تمرّ أحيانا عبر الجبال التي يبلغ ارتفاعها 2000 متر، قدّرت إدارة الأشغال العمومية أنها تحتاج لمدة سنتين و 800 مليون فرنك، وقد قرّرت اللجنة التي شكّلها المهدي بنبركة أن تنجز المهمة في ظرف 3 أشهر وبتكلفة لا تتعدى 184 مليون فرنك فقط (لاحظ الفرق).

تمّ الاعلان عن فتح باب التطوع، وكان المطلوب أن يصل العدد إلى 12 ألف شاب، لكن عدد المتطوعين بلغ أكثر من 33 ألف شاب، مما جعل اللجنة تلجأ إلى الانتقاء بناء على المستوى التعليمي (كان 80 في المائة من الشباب ينحدر من القرية)…وهكذا تم انتقاء 12 ألف شاب وأخضعوا لتكوين عملي ونظري…ثم دُفعوا إلى ساحة العمل الذي نتجت عنه طريق الوحدة.

لقد هدف هذا العمل إلى تحقيق مجموعة من الانجازات يمكن تلخيصها في ما تطرق إليه الباحثان الفرنسيان سيمون وجان لاكتور، في كتباهما “المغرب تحت الاختبار”: “ليس طريق الوحدة ورشة عمل وحسب (…) بل إن تفكير المهدي بن بركة كان يهدف إلى تجميع واسع للشباب حول موضوع وطني وحركي في الوقت نفسه. لقد كان الهدف هو إثارة اهتمام شبيبة لامُبالية نسبيا، وحملها من خلال بذل الجهد على الاقتناع بأن العمل وحده يعطي مردودية، وأيضا جعلها تكتشف بصورة جماعية بعض حقائق الواقع الحديث، وانتِزاعها من عالم القرية المحدود وبالتالي فتح أعين الشباب المراهق –الذين لا يرون أية آفاق غير تلك التي يُقدّمها لهم الدوار والقبيلة – على وجود وطن اسمه المغرب، من خصائصه التعدّد والتنوّع ويجتاز طروفا صعبة. يتلعق الأمر إذن، بمجال لاكتساب التجربة، وبـ “مُنبه الصباح” للشبيبة المغربية يمكن أن يتشخّص أيضا في مشروعات أخرى من قبيل بناء سد أو القيام بعملية الحصاد أو بناء قرية شعبية أو مدرسة: إنه طريق” (هذه الشهادة أوردها المرحوم الجابري في كتابه “في غمار السياسة ج 2″، ص 136).