وجهة نظر

أمريكا وإيران والمواجهة المؤجلة منذ أربعين عاما

عندما يلوح ترامب بالدخول في حرب مع إيران وكأنه سيدخل مناقصة تجارية لإحدى شركاته.

قد يكون ترامب عايش حروب بلاده المختلفة من قنوات التلفاز، وتابع أطوارها من على الجرائد والمجلات المختلفة من على مكتبه الفاخر في برجه ذو الستين طابقا، لكن الرجل سيجد حتما أن تحمل مسؤولية دخول وإدارة حرب ليس هو حتما إدارة شركة أو صفقة تجارية، وأن تكون هذه الحرب مع دولة تتحكم في مئات من الجماعات والحركات الطائفية في منطقة شاسعة تعج بالمصالح والقواعد الأمريكية فتلك قصة أخرى لا ينصح حتى بالتفكير في سيناريوهاتها.

عداء الأمريكيين للإيرانيين ليس وليد اليوم، فهو يمتد لقرابة الأربعين عاما، بما يعني أن الحرب الباردة بين الطرفين وصلت إلى الحد الذي اطمئن فيه كل جانب على عدم قدرة الجانب الآخر لمهاجمته، لكن يبقى سؤال مدى احتمالات المواجهة العسكرية بينهما لا يزال يؤرق بال الكثيرين، حيث تزايد التوجس من الأمر مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة بزعامة دونالد ترامب، هذا الأخير الذي يمكن أن تؤدي قلة تجربته السياسية و اندفاعه وتحمسه الزائد إلى نتائج وعواقب وخيمة قد يكون أحدها ببساطة اتخاذ قرار مهاجمة إيران بالفعل.

لكن هل حقا إيران وأمريكا قاب قوسين أو أدنى من المواجهة العسكرية؟ وهل حقا أن احتمالات الاصطدام العسكري المباشر أكبر من غيره من الاحتمالات الأخرى؟، أم أن ما يثار حاليا لا يعدوا أن يكون مجرد عودة لتلك اللعبة القديمة والمربحة للطرفين لكسب مزيد من المزايا والنفوذ في المنطقة كما كان عليه الأمر منذ السنوات التي خلت؟.

المعروف أن الأمريكيين بارعين للغاية في توظيف “الفزاعة الإيرانية” وخاصة التهديد النووي لابتزاز دول الخليج وكسب مزايا وصفقات اقتصادية عسكرية ضخمة جراء ذلك، هذا دون الحاجة إلى الحديث عن ما يؤدي إليه ذلك من الحاجة الدائمة من طرف هذه البلدان إلى الحماية الأمريكية مما يمنح هذه الأخيرة شرعية دائمة لقواعدها العسكرية المتواجدة بالمنطقة، وبالتالي وجود يد طولا دائمة تحمي المصالح الغربية من أي تهديد كيفما كان بما فيها من تلك الأنظمة نفسها.

على الجانب الآخر فالإيرانيين لا يقلون براعة عن نظرائهم الأمريكيين، وهم يعرفون كذلك كيف يتحكمون بخيوط اللعبة ويفرضون أجندتهم في المنطقة، فتارة يتم ذلك بتوظيف فزاعة “الشيطان الأكبر” في سعيها لاستمالة الشعوب العربية والإسلامية الحانقة من السياسة الأمريكية ضد المسلمين، وتارة أخرى من خلال عرض وفرض نفسها كحامي للمذهب الشيعي مستغلة في ذلك الفوضى الأمنية التي تشهدها المنطقة منذ احتلال العراق إلى غاية اندلاع ثورات الربيع العربي.

بل إن هذه الفوضى المنطقة عاملا مفيدا للغاية لإيران، حيث تمكنت الأخيرة من مد عصيها الطويلة في مناطق وبلدان عديدة في منطقة الشرق الأوسط مستغلة في ذلك بشكل كبير النزعة الطائفية وذلك من خلال تقديم نفسها كمدافع وحامي للتيار الشيعي، وهو ما جعل جماعات وتيارات كثيرة تدخل في فلكها من دول مختلفة في المنطقة وحتى من خارجها .

لكن السؤال الآخر الذي لا يقل أهمية هو هل الأمور فعلا ستبقى كما كانت حتى وإن وصل ترامب إلى الحكم؟، أم إن الإدارة الأمريكية الجديدة مصرة فعلا على تغيير قواعد اللعبة، بما يجعلها المتحكم الوحيد فيها؟، وأنها من أجل ذلك يمكن فعلا أن تنتقل من مرحلة الأقوال إلى مرحلة الأفعال، دون الاكتراث للعواقب والنتائج الكارثية لأي سيناريو في هذا الاتجاه؟.

الجالس الجديد على العرش في البيت الأبيض كشف من البداية عن أوراقه، إذ سارع إلى تقديم وتعريف نفسه للإيرانيين، حيث وجهت إدارته تهديدات شديدة اللهجة لحكام ولاية الفقيه في أكثر من مرة خلال أسبوع واحد فقط كان آخرها توصيف وزير الدفاع الجديد جيمس ماتيس لإيران بأنها “أكبر راع للإرهاب في العالم”. ناهيك عن التوتر بعد حادثتي مهاجمة البارجة البحرية السعودية في باب المندب والتجربة الصاروخية الإيرانية الأخيرة والتي جعلت الرئيس الجديد يخرج بتصريح قوي قال فيه أن جميع الاختيارات مطروحة بما فيها الخيار العسكري، ويردف أنه لن يتساهل مع إيران كما تساهلت معه إدارة الرئيس أوباما، وإلى هنا الرسالة وصلت وبشكل واضح.

وهذا ما يعني أن الاحتمال العسكري وارد فعلا، يبقى السؤال عن ما هي الصيغة لتبرير ذلك؟، وكيف ستقنع الإدارة الأمريكية شعبها والعالم بهذه الحرب، التي حتما ستختلف عن أي حرب أخرى من تلك التي خاضتها أمريكا في المنطقة، اللهم إلا إذا كان الأمر سيقتصر فقط على بعض الحركات والجماعات التابعة لإيران دون أن يشمل ذلك إيران نفسها، لكن حتى هذا الاحتمال نفسه يحمل مخاطر كثيرة مادامت هذه الجماعات لن تبقى مكتوفة الأيدي وستسعى إلى حق الرد وبالتالي ستكون المصالح الأمريكية في مرمى هذه الجماعات.

إسرائيل ودول الخليج خاصة العربية السعودية هي أكثر من سيدعم الخيار العسكري وسيتحمس له حتما، لكن للأسف الشديد التجارب علمتنا أن الأخيرة لا تستفيد من التاريخ ودروسه، ونأمل فعلا أن تعيد حساباتها قبل أي توجه من هذا النوع، ببساطة لأن أي حرب على إيران ستعني إشعال المنطقة وإحراقها من أقصاها إلى أدناها، بما فيه هذه المرة العمق الداخلي لدول الخليج التي لن تسلم منه، وهنا تكمن الخطورة الأشد لأي خطوة طائشة من هذا الاتجاه.

قد نتفهم رغبة الإخوة الخليجيين في كبح جماح إيران في المنطقة، لكن ليس بهذا الشكل يجب أن تتم الأمور، إن أكثر من عليه أن يسعى للحيلولة دون هذا السيناريو هم الخليجيين قبل أي أحد آخر، فهي تعرف أن كل المصالح الأمريكية التي تعج بها هذه الدول ستكون هدفا، هذا دون الحديث عن التأثيرات المباشرة خاصة لو نفذت إيران تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي حيث% 88 من الصادرات النفطية للسعودية تتم عبر المضيق بالإضافة إلى %98 لنظيرتها لإماراتية ناهيك عن كون 22 من السلع الأساسية في العالم من حبوب وحديد واسمنت تمر عبر المضيق.

إن أي هجوم أمريكي على إيران سيجعل الأمن العالمي على المحك بما فيه شك والكل يعلم ذلك، لذلك فالجميع سيسعى للحيلولة دون أي تصعيد في هذا النحو، خاصة من قوى مثل اليابان التي اكبر دولة في العالم تستورد النفط عبر المضيق مضيق هرمز الاستراتيجي، ثم الصين التي تستورد جزء كبير من احتياجاتها الطاقية من المنطقة ومن إيران بالذات، كذلك الشأن لأوروبا التي لن تسمح هي الأخرى بالأمر خاصة بعد أن أصبح النفط الإيراني بديلا لها عن الروسي، كما يعول عليه في تغطية جزء كبير من حاجيات دولتين كبيرتين في القارة وهما ايطاليا واسبانيا.

فدون الحديث إذا في مشكل طبيعة وشكل الأسلحة التي سيتم استعمالها والتي حتما تختلف عن أي أسلحة واجهت الجيش الأمريكي كما ونوعا، يبقى الإشكال والتحدي الأكبر أن المواجهة قد تشمل عشرات الجبهات في آن واحد ولن يعرف أحد حدود تلك الحرب ولا نتائجها التي حتما لن تكون كأي حرب من التي مرا على المنطقة، وهو ما يعني أن الجميع سيحسب ألف حساب قبل أن تقدم على أي توجه من هذا القبيل.

الخلاصة أن أمريكا التي لم تستطع ضرب إيران لأربعين سنة بمعية حلفائها حين كانت الأخيرة متقوقعة داخل جغرافيتها فقط، لا يمكن لها أن تفعل بعد أن أصبحت الأولى وحيدة في سياستها الجديدة وأصبحت الثانية هي اللاعب والمتحكم الأول في امن الشرق الأوسط بأسره، أما إذا حدث ووقع ذلك فعلينا أن نقرأ الفاتحة على شكل العالم الحالي.