وجهة نظر

هل انتخاباتنا تستحق فعلا كل هذه الزوبعة ؟

في بلدنا من يخططون ويضعون ويقررون البرامج والقرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هم في الأصل و الحقيقة لا يخوضون الانتخابات، بل إن القلة القليلة من يعرفهم ومن يعرف أسمائهم حتى، فهم قلما يظهرون على الإعلام أو على وسائل التواصل كما بقية الشعب، كما أنه لا يرتادون المؤسسات الرسمية “المكشوفة” كما بقية المسؤولين العاديين، ولا نعرف عنهم شيئا سوى أنهم “خدام دولة” دون أن نعرف حتى المقصود بالضبط بمعنى الدولة هنا، وإن كانت حتما لا تشمل الشعب ضمن أجندة خدماتها…

هؤلاء مهمتهم هي تنفيذ أوامر أناس آخرين قد يظهرون لنا فعلا على القنوات التلفزيونية وعلى وسائل التواصل، وقد يلجون المؤسسات المنتخبة كما ممثلي الشعب، وقد يعرفهم الكثير من الناس من خلال حضورهم الدائم على الإعلام باختلافه أو حتى على الألسن في الشارع…، لكن مشكلة هؤلاء ألا أحد اختارهم من الشعب ولا أحد انتخبهم ولا أحد أوكلهم لذلك كما هو مفترض في أي نظام يقول أنه فعلا “نظام ديمقراطي”، فهم مثل ذلك القضاء والقدر الإلهي الذي ابتلي به هذا الشعب ليس إلا.

البلد تعيش حاليا حالة استنفار، ونعيش معها حركية غير معهودة من الجدالات السياسية اللا متناهية تصل معه الأمور في كثير من الحالات إلى مستوى القاع والحضيضية في السلوك السياسي ويتحول معه التنافس إلى صراعات وتطاحنات صبيانية تصل أحيانا إلى ما يشبه حرب عصابات وليس عرض برامج وأفكار…، كل هذا من أجل أن يثبت أحدهم أنهم الأجدر بتمثيل المواطن ومصالحه.

لكن لندع هذا للحظة ونفكر بقليل بالعقل والمنطق فقط تم نطرح سؤال بديهي، هل كل ما نجده ونراه يقع وما نعاينه حاليا من تجاذبات وجدالات “بيزنطية” ومن استقطابات وغير ذلك… يستحق فعلا كل هذه الهالة و كل هذا الاهتمام، ويستحق كل هذه الزوبعة والقيامة المثارة حوله ؟!.

لكي نعرف الحجم الحقيقي للعملية الانتخابية في المغرب، وعن من يصنع ويتحكم فعلا في كل مجريات الأمور وبعيدا عن كل ما تراه وتسمعه عنه من على الإعلام ولا من على الشارع أو حتى ما تسمع عنه من الفاعلين المختلفين في الساحة السياسية، فما علينا إلا أن تتأمل جيدا في حقيقة حدثين وقعا في البلد فقط في الثلاث أسابيع الأخيرة وحينها تلقائيا ستكتشف الحقيقة وستكتشف من يصنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلد.

– الحدث الأول لنتأمل جيدا في مظاهرة الدار البيضاء “اللقيطة” (لتبرأ الجميع من مسؤوليته عنها)، وكيف تم حشد و تجييش الآلاف المواطنين البسطاء من على مئات الحافلات والسيارات والزج بهم في مظاهرة قيل أنها ضد “أخونة الدولة”، ولم تعلن ولا أي جهة إلى اليوم مسؤوليتها في تنظيمها…

فالمظاهرة من صنع وزارة الداخلية وهذا أمر مفروغ منه (بحكم أن من تم حشدهم أتوا باملاءات وأوامر مباشرة من أعوانها كما أنها بالطبع ما كانت ستسمح بتوظيف صور الملك وأعلام البلد لولا معرفتها المسبقة بكل مجريات الأمور-على الرغم من سعيها لنفي ذلك-..).

فأن تقوم وزارة الداخلية إذا والمفترض بها –دستوريا- أن تكون تحت وصاية رئيسة الحكومة وتقوم بتنظيم مظاهرة ضد الحكومة نفسها، فهذا يعني شيئان لا ثالث لهما.

الشيء الأول أن رئيس الحكومة لا سلطة فعلية له على وزارة الداخلية وبالتالي فالأخيرة تتصرف وفق املاءات أطراف أخرى لا نعلم عنها شيئا وبالتالي فهي بدون أي سند لا قانوني ولا دستوري، مما يعني أن وزارة الداخلية تشتغل خارج إطار القانون و الدستور وبالتالي كذلك أن هذا الأخير الذي ظل العديد يتغنى ويتبجح به ليل نهار لا يساوي في حقيقته أكثر من الأوراق التي كتب عليها.

الشيء الثاني أن المظاهرة تعبير صريح عن الطرف الآخر ممن يحكم البلد بشكل فعلي ومن يصنع القرارات الكبرى، لدرجة أن وزارة الداخلية نفسها ولا غيرها من المؤسسات الأخرى قادرة على ضبطه ولا منعه من ذلك -هذا لو افترضنا جدلا صدق روايتها-، أو بصيغة أخرى أن هناك “نظام موازي” للنظام الذي انتخبه بعض من الشعب وأوكله مهمة تدبير شؤونه، هو الذي يحكم ويتحكم بشكل فعلي في كل قراراتنا وشؤوننا.

– أما الحدث الثاني فلنتأمل جيدا في المجلس الوزاري الأخير الذي ترأسه الملك بمدينة طنجة والذي عرف إصدار قرارات هامة ستغير الكثير الكثير من الأشياء، حيث أشر الملك في المجلس على برامج وإجراءات اقتصادية كبيرة وإستراتيجية للبلد، عل أهمها التأشير على تحرير قيمة العملة المغربية في السوق، وبعض الاتفاقيات الاقتصادية الهيكلية الهامة منها ما يروم إحداث آلاف من مناصب الشغل …

المجلس الأخير المتزامن مع الأيام الأخيرة لولاية الحكومة والبرلمان، يعبر عن شيء واحد كذلك وهو أن من يملك القرار الاقتصادي الاستراتيجي للبلد لا يخوض الانتخابات ولاتهمه نتائجها أصلا، وأن ما يضعه من قوانين أو يتخذه من قرارات ستٝرغم (بضم التاء)أي حكومة حتى وأن كانت منتخبة للامتثال به والتنفيذ الحرفي له..

من هنا فالسؤال المطروح إذا هو ما هي مهمة الحكومة المقبلة إذا كانت ستجد مثلا أن هناك قرارات وإجراءات متخذة من أطراف أخرى لا يجوز لا تغييرها و لا إبداء أي ملاحظات أو اقتراحات عليها ولا حتى مناقشتها، كما هو الشأن مثلا في قرار تحرير عملة الدرهم والذي أشر عليه الملك والذي يعلم الكثير أن فيه مجازفة ومغامرة كبيرة بحكم ضعف وتخلف الاقتصاد الوطني، وبحكم أنه جاء كتنفيذ لتوصية من توصيات البنك الدولي، والأهم أن القرار ليس للحكومة المقبلة ولا رئيسها المنتخبين من الشعب أثر سوى التنفيذ وفقط ومع ذلك ستحاسب هي فقط على ذلك ولن يحاسب صاحب القرار الحقيقي؟.

قد يكون هذين الحدثين مجرد مثالين بسيطين من مجمل السلوكات والأشياء التي تقع يوميا ونعايشها في الحقل السياسي، لكن في عمقهما يلخصان عمق أزمة المنظومة ويلخصان طبيعة النظام الذي يحكم ويتحكم فينا، كما يلخصان لنا بشكل جلي مدى المحدودية والقصور الكبير لتأثير العملية الانتخابية في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحقيقي من الذي يمكن أن يحدث فعلا الفارق في أحوال البلد.

خلاصة الكلام أن المشكلة الحقيقية ليس في تلك العملية الميكانيكية التي يحشر ويجيش فيها المواطنين على اليوم الموعود للتصويت على من يرونه الأصلح بتمثيلهم في البرلمان والحكومة، فالإشكال أعمق بكثير من كل هذا وذاك، بل إن هذا فيه تغييب كلي للحقيقة (أو على الأقل جزءها الأكبر)، لأنه لا يمكن أن نتحدث عن برلمان حقيقي في ظل غياب ظروف الممارسة السياسية السليمة، إذ ما فائدة برلمان أو حكومة منتخبة إذا كانت هذه الحكومة لن تستطيع تقرير أي شيء خارج البرنامج والخطة المرسومة لها سلفا والتي يكون هو التنفيذ فقط…، فمن العبث أن تتحدث الأحزاب عن برامج هي نفسها تعرف ألا حول ولا قوة لها بتطبيقها مادام المجال في ذلك مكفول لأناس وأطراف أخرى.

من هنا إذا سنكتشف أن الفرق بين 7 أكتوبر و8 أكتوبر هو من سينفذ البرنامج ومن سيؤدي دور “الجلاد”..، ففي ظل غياب شروط وظروف إفراز حكومة قادرة على تطبيق التزاماتها بعيدا عن ما هو مرسوم لها مسبقا فان الأمر سيظل دائما كمن سيسعى فقط إلى تحسين ظروف السلطوية بدل إسقاطها، بل إن الأمر يصل إلى درجة الشرعنة وتوفير الغطاء وصفة “الحلال” لها وهو ما يجعل الأمر أشبه بالمشاركة في عملية تدليس وخداع كبيرة.