من العمق

لغروس يكتب.. “الأوفقيريون الجدد”

في الوقت الذي كان ينتظر أن يعتذر بعض من بني جلدتنا على فرحتهم الطائشة التي لم تكتمل، وأن يقوموا بنقد ذاتي جراء مرض فقر الديمقراطية المزمن الذي يعانون منه، وتحالفاتهم المتكررة مع الاستبداد ومناصرتهم له، طلع علينا بعضهم بافتتاحيات ومقالات ورسائل وتدوينات يهاجم فيها دون حياء ولا وجل أنصار الديمقراطية وليس أردوغان بالضرورة، هكذا تمادى أولئك المريبون في غيّهم و”تخراج الصنطيحة والعينين” متهمين الصف الديمقراطي باجترار مقولات من قبيل  أن ما يحدث في تركيا لا علاقة لنا به، وأن بين الرباط وأنقرة آلاف الأميال مستوحين ذلك من منطق “تازة قبل غزة”، وترديد الأسطوانة المشروخة الوطن/الجماعة التي تتوسل بشغل “الشوافات” و”ضريب الفال” للتدليل على ادعاءات هي محض أوهام في أذهان أصحابها فقط، بل بلغ الأمر ببعضهم حد التشكيك في وطنية كل من وقف ضد الانقلاب ونعتهم -في اتهام خطير- بأنهم “يعيشون بيننا بهويات مغربية مزيفة”؟؟

لقد تجاهل هؤلاء عن عمد كل أدبيات القانون الدولي ومنطق العولمة المسيطر وانفجار ثورة الاتصال والتكنولوجيا التي ألغت كل شيء اسمه الحدود السياسية للدول وحولت العالم إلى زقاق وليس قرية صغيرة، ومنطق كل هذه المعطيات القائلة بأن ما وقع في 11 شتنبر 2001 من تفجيرات إرهابية واضح كيف أثر في كل العالم من بينه مملكتنا وقوانين مكافحة الإرهاب بعناوينها المختلفة في معظم البلاد العربية والقصة معروفة، ولعل “الربيع العربي” أقرب مثال على التأثير والتأثر إيجابا وسلبا بين البلدان، فكيف تجاهل أولائك المريبون كل هذا؟ لكنها تبريرات مُدينة حيث ينطبق عليهم قول العرب قديما “كاد المريب أن يقول خذوني” وتضرب العرب هذا المثل لمرتكب الخطأ الذي أوشك من كثرة شكه بنفسه، ومن كثرة خوفه أن يفتضح أمره، وأوشك أن يقول: أنا المخطئ فخذوني.

إن بعض الأصوات النشاز التي عاكست الإرادة العامة والعارمة للشعبين التركي والمغربي بحكومتيهما وقيادتيهما وأحزابهما على اختلافها في الانتصار للديمقراطية ونبذ الانقلاب، تحاول لوك الكلام والبحث عن مشاجب للتخفيف من فضيحتها المدوية، وذلك بالحديث تارة عن أن الصراع بين الإسلاميين حول السلطة؟، وأن أردوغان هو من قام بالانقلاب لتصفية المعارضين؟ بل ذهب أحدهم إلى القول إن الموقف من الانقلاب يخضع للتقارب الإيديولوجي والفكري؟؟ وكأن الأمر يتعلق بالموقف من اختيار اقتصادي أو المصادقة على اتفاقية دولية؟، في حين أن السؤال الذي لم يمتلكوا الجرأة بعد للجواب عليه بكل وضوح هل أنتم مع الانقلابات العسكرية أم ضدها؟ هل أنتم مع دولة المؤسسات أم مع منطق ازدواج السلطة واستغلال المواقع والنفوذ؟ هل أنتم مع سلطة الصناديق وسيادة الشعب أيا حملت للسلطة أم مع التحكم والتسلط؟

إن من بين الفروق بين الديمقراطي والمستبد هو أن الديمقراطي يحافظ على قواعد اللعب وعلى المؤسسات مهما بلغ الاختلاف والتدافع أو الصراع، في حين أن كل هم المستبد هو مصالحه الشخصية مهما اختلت اللعبة ومهما أزهق من أرواح ومهما سحل وسجن وظلم الناس، والتجربة المصرية خير شاهد رغم كل المؤاخذات التي يمكن أن تسجل.

إن ما تم التعبير عنه من فرحة طائشة من محاولة انقلاب كللت بالفشل في أقل من 12 ساعة، يجعلنا نتخوف من أولئك “الأوفقيريون الجدد” الذين عبروا صراحة عن استعدادهم للانقلاب عن الشرعية والديمقراطية في أي لحظة، بل عبروا أيضا عن استعدادهم للتغطية وإضفاء الشرعية السياسية والإعلامية و “الحقوقية” و”المدنية” عن أي عنف مادي قد يغتصب -لا قدر الله- إرادة الناخبين أو إحدى مؤسسات الدولة المختلفة، ولعل الجديد في فضيحتهم هو خروجها للعلن وإلا فإنهم ما فتئوا يعبرون عن نفس النزعة المقيتة في جلسات خاصة، فهذه من نفع هذه الواقعة الانقلابية الضارة.

وأنا أقرأ موقف “الأوفقيريون الجدد” قلت مع نفسي ألم يقفز إلى ذهن أولئك محاولة انقلاب الصخيرات في العاشر من مثل هذا الشهر سنة 1971 في الذكرى 41 لميلاد الراحل الحسن الثاني، وما قام به عبابو والمذبوح ومن ولاهم، ألم يتذكروا محاولة الانقلاب الفاشلة لوزير الداخلية والدفاع أوفقير في 16 غشت 1972 أو ما عرف بانقلاب بوراق “إف5” والتي قادها رفقة أمقران وقويرة وآخرون، ألم يكن كل من المرحوم الحسن الثاني وولي عهده محمد السادس قاب قوسين أو أدنى من الموت مما كان سيفتح البلاد على المجهول، وذلك من طرف أقرب المقربين إلى الحسن الثاني، والذين كانوا عمليا يقيمون دولة أخرى سرا وعلانية داخل الدولة المغربية وبلغ بهم الجشع والطمع وغواية السلطة حد إراقة الدماء والتضحية بكل شيء من أجل نزواتهم ونزوعاتهم ومصالحهم ومصالح أسيادهم.  

إن الصراع المغربي بالأمس واليوم وأظنه سيظل بين من يؤمن بقرار المؤسسات ومن يقرر خارجها، بين سلطة تتلقى مشروعيتها من الشعوب وصناديق الاقتراع، وبين أخرى مزدوجة تستمد مشروعيتها من استغلال النفوذ والمواقع والتحكم، بين دولة المؤسسات والدولة التي توجد داخل الدولة بتعبير بن كيران، أو بين مجتمعين بتعبير عبد الله إبراهيم كما شرح ذلك بلكبير عبد الصمد، أو الحزب السري بتعبير محمد اليازغي. ويحضر بمستوى ثاني حديث عبد الرحمان اليوسفي عن جيوب المقاومة وهي التماسيح والعفاريت بلغة بنكيران. الصراع في المغرب إذا هو بين من يسعى لإحياء وتكرار تجربة ومنطق أوفقير وإن بطرق مختلفة وبين من يريد استكمال جهود الحركة الوطنية في البناء المؤسساتي والتراكم الديمقراطي والمصالحة.  

فهل يقدر “الأوفقيريون الجدد” على الاعتذار بدل تقديم أعذار أقبح من زلة مفضوحة وموثقة؟ لكن بينكم وبين خلق الاعتذار والنقد الذاتي الكثير من الشجاعة والنزاهة وأميال من الحرية.

 أختم هذا المقال بطرفة تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي عن أب أراد أن يشرح لابنته الصغيرة ما حدث من محاولة انقلاب فاشلة في تركيا ليلة الجمعة/ السبت 15/16 يوليوز2016 فقال لها بعد مساعدة من أصدقائه “إن تركيا دولة فيها رئيس، مثل محمد السادس عندنا، وأتوا بعض الأشرار لكي يزيلوه ويضعون مكانه شخصا آخر، لكن عمليتهم تلك فشلت وتم اعتقالهم وإيداعهم السجن، فما كان من البنت الصغيرة إلا أن أجابت بسؤال الفطرة “وهل عندنا في المغرب مثل أولئك الأشرار” فوجد الأب نفسه في ورطة وترك الجواب مفتوحا.