وجهة نظر

الإسلاميون في اليوم العاشر

قراءة في كتاب “نشأة الفكر السياسي الاسلامي وتطوره”

عنوان غريب ذلك الذي اخترته لهذه المقالة، لكن وجه الغرابة سيزول عند من قرأ قصة زكرياء تامر” النمور في اليوم العاشر”. فأوجه المماثلة تبدو واضحة كما سيظهر من خلال التحليل. لنترك نمور تامر الى حين ولنتأمل حال بعض الاسلاميين اليوم.

فقد صدر عن منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة، كتاب للدكتور محمد جبرون بعنوان: “نشأة الفكر السياسي الاسلامي وتطوره” الذي فاز بجائزة المغرب للكتاب للسنة الماضية، في صنف الفكر الاسلامي. والدكتور جبرون باحث وأكاديمي مغربي اسلامي، يعنى بقضايا التاريخ والفكر السياسي الاسلامي، صدرت له مجموعة من الأعمال والدراسات من أبرزها كتاب”مفهوم الدولة الاسلامية:أزمة الأسس وحتمية الحداثة”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات(2014). وكتاب” مع الاصلاحية العربية في تمحلاتها” الصادر عن مركز نماء للدراسات والبحوث(2015). كما فاز بالجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والانسانية في دورتها الأولى(2012).

يتكون الكتاب من أربعة فصول هي:
– الفصل الأول: السلطة السياسية في دولة الرسول صلى الله عليه وسلم: دراسة في الجذور المدنية لإشكاليتي الشرعية والدولة.
– الفصل الثاني: الفكر السياسي الاسلامي قبل عصر التدوين(11-132ه)الخصائص والسمات.
– الفصل الثالث: تدوين الفكر السياسي الاسلامي: دراسة في نشأة العلاقة بين الوحي والسياسة.
– الفصل الرابع: الفكر السياسي الصوفي: معين الطاعة وحصن الجماعة.

وفيما يلي، تلخيصلأهم مضامين وأفكار الكتاب، قبل ابداء بعض الملاحظات حوله.

يحدد الكاتب المقصود بالفكر السياسي في حصيلة التفكير الواعي والعقلاني للمسلمين في مسألتي السلطة السياسية(الشرعية)، والذي ربط تاريخ ظهوره بالاجتماع الأول في سقيفة بني ساعدة، الذي يعتبر مادار فيه وما تمخض عنه، البوابة الرئيسية لتعريف هذا الفكر، والذي سيكتمل بناء وتصورا وتغلغلا في اللاشعور الجمعي مع عصر التدوين. وقد كان الكاتب خلال تجوله في حدائق هذا الفكر محكوما بثلاث هواجس أساسية هي: اشكالية الجذور المدنية للفكر السياسي الاسلامي في المرجع الديني الاسلامي في مستوى القرآن والتجربة التاريخية للرسول صلى الله عليه وسلم، واشكالية أصالة الفكر السياسي الاسلامي، وصفاء نوعه، واشكالية علاقة الوحي بالسياسة.

يرى الكاتب أن السلطة السياسية في زمن النبوة استمدت شرعيتها من الغايات المرجوة من ورائها، ومن موافقة العامة عليها. وهو ما يظهر في وثيقة الصحيفة التي تعتبر أول دستور لدولة المدينة محكوم بمبدأ التعاقد، الذي يتجاوز منطق القبيلة الى منطق الأمة، ويقوم على نبذ الظلم والعدوان والعنف.

وقد تطورت هذه الشرعية بعد ذلك خلال الفترة النبوية بتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة من جهة، وبين المسلمين وباقي عرب شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى، بالإضافة الى توالي التشريعاتالتي تنظم الحياة السياسية الجماعة داخل المدينة. وهي اجراءات كما يرى الكاتب لم تكن وحيا من الله تعالى، اذ لم يرد في نصوص السنة أمر بتأسيس سلطة سياسية( أي دولة)، وترك هذا الأمر لتدبيرهم وحكمتهم وخبرتهم. أما بعض الآيات ذات الصبغة السياسية( كما هو حال سورة براءة) فيشير الكاتب الى أنها كانت في الغالب أسلوبا بعديا يؤكد مدنية السلطة في الاسلام، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذ القرار الذي يراه مناسبا في النوازل والأحداث مستحضرا الغايات الأخلاقية والانسانية، قبل أن ينزل الوحي مزكّيا أو معدلا أو لاغيا القرار.

بعد ذلك عرض الكاتب لأهم مكونات ومؤسسات الدولة في عهد النبوة؛ كرئاسة الدولة والجيش والقضاء والوظيفة العمومية والولايات والعلاقات الخارجية. حيث يشير الى أن أغلب هذه المؤسسات كانت تشتغل وفق التدبير المصلحي، وما يفرضه الواقع من اشكالات، و بالتالي فهي مؤسسات مدنية الشكل والمضمون.

في الفصل الثاني، وقف الكاتب عند سمات الفكر السياسي في فترة ماقبل عصر التدوين، والتي تمتد من وفاة الرسول عليه السلام الى مقتل آخر خلفاء بني أمية سنة132ه. حيث يرى أنه بالرغم من الأحداث الكبرى التي عرفتها المرحلة (حادثة السقيفة- حروب الردة- الفتنة الكبرى…)فان ملامح الفكر السياسي لم تتخذ شكلا نسقيا، بل ظل مفترقا في مظان مختلفة؛ ككتب الأمثال، وكتب الآداب والمسامرات، والخطب والرسائل، وبعض آراء المتكلمين والفقهاء الأوائل. وقد تميز هذا الفكر بعدم الاستقلال المعرفي، وغلبة التداول الشفهي، والارتباط بالبيئة العربية، والتأثر بالمحيط الثقافي، والعفوية المنهجية…لكنه ظل تفكيرا، حسب الكاتب، تاريخيا ارتبط بحوافز موضوعية بالدرجة الأولى، ولم يرتبط باملاءات نصية مباشرة.

في الفصل الثالث، ينتقل الكاتب الى الحديث عن خصائص الفكر الاسلامي في عصر التدوين، والذي اعتبره الاطار المرجعي الذي مازال يحدد ملامح هذا الفكرالى الآن. ويرى الكاتب أن هذا الفكر لم يكن محكوما دائما بالنص الديني بل ارتبط بعناصر ثلاثة أساسية هي: الصراع المذهبي والإيديولوجي، الذي يتجلى في السياسة الطائفية التي قادها العباسيون مما عجل بظهور الجهاد النظري الذي يرد على مسألة الوصية والتعيين، والتحول السوسيوثقافي، الذي تميز بظهور فئة الموالي التي استفادت من خبرتها العلمية والثقافية في التنظير للفكر السياسي، ثم سياسة الدولة العباسية التي شجعت الانفتاح الثقافي عن طريق الترجمة؛ مما أدى الى اغتناء الفكر السياسي الاسلامي بمقولات أجنبية.

وبعد أن حلل الكاتب بعض النصوص التي تناولت الشأن السياسي في هذا العصر والتي لخصها الكاتب في الكلام السياسي في مسألة الامامة ( السني والخارجي والشيعي)، والفقه السياسي( فقه الخراج- فقه القضاء- الأحكام السلطانية)، والآداب السياسية( خاصة كتب ابن المقفع ورسائل عبد الحمد الكاتب)، والفلسفة السياسية( الفرابي– ابن سينا- ابن مسكويه…)خلص الى أن هذا التنوع في مصادر هذا الفكر بالإضافة الى مستجدات الواقع، كرس الطابع المدني للاجتماع السياسي الاسلامي، والاحتجاج العقلاني له ورسخ قيم الانفتاح على كل التجارب الانسانية، دون أن يعني ذلك غياب النص الديني الذي ظل حاضرا بقوة، وخاصة في المقالات الفقهية والكلامية، بعد أن استنفذت الحجج العقلية كثيرا من قوتها الحجاجية( خاصة في مسألة الامامة). مما فتح أمام هذا النص آفاقا تأويلية جديدة ومتضاربة في بعض الأحيان.

لكن ما يثير انتباه الكاتب، هو أنه في خضم هذا التداخل بين بنيات معرفية مختلفة( بيان، برهان، عرفان)، تم السقوط في عامل الاستلاب الثقافي الفارسي، أو ما يسميه الكاتب بالفورسة، حيث تسربت مجموعة من القيم السياسية الكسروية، كارتباط الدين بالملك، وقيم الطاعة المطلقة،وبعض الأحكام السلطانية…وقد خلص الكاتب في نهاية هذا الفصل الى هدف الدراسة هو تحرير العقل السياسي الاسلامي، وحفزه على الاندماج في العصر بقيم ورسالية مختلفة عن تلك التي يروج لها الكثير من الحركيين الاسلاميين، رسالة تستمد هداها من قراءة كلية للنص القرآني وتجربة الرسول السياسية، أو ما يسميه بهدي القرآن في السياسة والدولة.

في الفصل الرابع انتقل الكاتب الى رصد معالم الفكر السياسي الاسلامي في مجال التصوف، وهو للإشارة مبحث جديد لم يسبق لأحد، على حد عملنا، أن تطرق اليه بشكل مفصل، باستثناء بعض الدراسات التي تناولت دور بعض الطرق الصوفية في الأحداث التاريخية التي عرفها العالم الاسلامي خلال تاريخه الطويل. اذ الشائع أن التصوف تجربة روحية فردية، قد تتخذ أحيانا شكل مملكات روحية، لكنها، في الغالب، كانت خارج حركة الفعل السياسي.

يشير الكاتب الى مجموعة من المصادر الصوفية التي اعتنت بالظاهرة السياسية منها كتاب”التبر المسبوك في نصيحة الملوك” لحجة الاسلام الغزالي، وكتاب” الذهب المسبوك في وعظ الملوك” للحميدي، وكتاب” التدبيرات الالهية في اصلاح المملكة الانسانية” لمحيي الدين بن عربي، وكتاب” سراج الملوك” لأبي بكر الطرطوشي… ويستنتج الكاتب من خلال تحليل هذه الأعمال وغيرها، الى ثوابت ثلاث شكلت معالم هذا الفكر منها: المماثلة بين عالم الملك وعالم الملكوت، اذ استقرار واستمرار عالم الملكوت هو نتيجة النظام والعدل الذي يسوده، وهو اشارة ضمنية لعالم الملك لكي يضمن استقراره واستمراره باستنساخه لتجربة لعالم الملكوت. ومنها اعراض المتصوفة عن أهل السلطان، والتخفف من أعباء الدنيا لتقديم نماذج للحكام وغيرهم. ومنها توجيههم للحكام للاعتناء بالباطن وتربية الناس على سلوك المراقبة الذاتية بدل الانشغال الكبير بشكليات الشريعة. فكلما تحقق المريد من معنى العبودية، وصدق في طلبه لله تعالى لحاصل باطن، ظهرت معالم الشريعة وظواهرها على سكناته وحركاته. ومنها أيضا حرصهم على حفظ الاستقرار وعدم تهديد الأمن، بحيث لا نجد دعوة صوفية الى الخروج أو ترك الطاعة، الى درجة اعتبرها البعض الثابت الذي يجمع كل أهل التصوف.
هذه باختصار أهم قضايا هذا الكتاب القيم الذي راهن على امتداد الفصول الى التأكيد على مدنية الدولة الاسلامية، وارتباطها الشديد بالمصالح الدنيوية وتحقيق السعادة الانسانية.

يتميز الكتاب بعمق التحليل، وغنى المصادر،وتعالق الفصول، وسلاسة الأسلوب. لكننا وقفنا على مجموعة من الملاحظات، التي لا تطعن البتة في قيمة الكتابالاستشكالية، منها اهماله لمصادر ومراجع أسّست للنقاش حول العلاقة بين الدين والدولة في الاسلام؛ منها كتاب”الدولة الاسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية” وكتاب”الاسلام والسياسة” للدكتور محمد عمارة، وكتاب” الدين والسياسة” للدكتور يوسف القرضاوي، وكتاب” الدين والدولة وتطبيق الشريعة” وكتاب” نقد العقل الأخلاقي العربي” للدكتور محمد عابد الجابري، وكتاب” المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الاسلام” للدكتور فهمي جدعان، وكتاب الدين والدولة في الفكر الاسلامي” للدكتور محمد سروش، وكتاب” روح الدين: من ضيق العلمانية الى سعة الائتمانية” للفيلسوف طه عبد الرحمان، وغير ذلك من الكتب التي تناولت هذا الموضوع من وجهات نظر مختلفة، ووفق تصورات متباينة حينا ومتوافقة أحيانا أخرى.

كما سجلنا ملاحظات على منهج الكتاب. فبالرغم من تحديد الكاتب، في المقدمة، منهج دراسته، والذي حدده في المنهج التاريخي، ضدا على المنهج البنيوي التكويني الذي اعتمده الجابري في نقد العقل السياسي العربي، الا أنه لم يلتزم تمام الالتزام بهذا المنهج، اذ كان دائم التنقل بين مناهج مختلفة منها: المنهج المقارن، والمنهج التحليلي؛ بل سقط من حيث لا يدري في المنهج البنيوي. لكننا نعذره في ذلك، لأن البنيوية، كما يقول جورج مونان، مسألة معطاة، تتربط ببنية الذهن، الذي لا يستطيع ادراك الظواهر الا عن طريق بنينتها وتنظيمها داخل أنساق.لكن ما لا نعذره فيه هو الاختزالية الشديدة التي ميزت بعض تحليلاته، خاصة تحليل رسائل عبد الحميد الكاتب، وكتب ابن المقفع، ككتاب” كليلة ودمنة” وكتاب” رسالة الصحابة” و “الأدب الكبير” و”الأدب الصغير”… اذ لو اطلع الكاتب على عمل الجابري”نقد العقل الأخلاقي العربي”، لوجد تحليلا وافيا، يسافر عبر فصول كثيرة، ويرصد، من خلالها، مظاهر تسريب قيم الطاعة الى العقل السياسي والأخلاقي العربي.

من ملاحظاتي على هذا العمل أيضا، سقوط الكاتب في تأنيس الفعل النبوي، تأثرا على مايبدو ببعض الحداثيين العرب، الذين قاربوا النص القرآني والحديثي، واستعملوا عبارات تسقط القداسة عنهما، أمثال محمد أركون، وجلال العظم، ويوسف الصديق، ونصر حامد أبو زيد… من ذلك مثلا استعمال الكاتب لعبارات من قبيل:” لقد كان الهاجس الأكبر الذي كان يسيطر على النبي” و” لقد سمى النبي هذه الجماعة بالأمة…” و” انشغل النبي بوضع التشريعات…” مع أن النبي كان محكوما بالوحي الالهي مصداقا لقوله تعالى:” وما ينطق عن الهوى، ان هو الا وحي يوحي”(الآية) مع ترك هوامش للاجتهاد البشري، الذي كان فعلا نبويا مقصودا وموجها بالوحي، هدفه مواكبة المستجدات ومصاحبة التحولات،كما تحكي ذلك كتب السيرة، من أحداث؛كالنزول في بدر وحفر الخندق وتأبير النخل…وقد أدى هذا الانزلاق بالكاتب الى السقوط في الفهم الإيديولوجي للدين، كما سقط قبله نصر حامد أبو زيد في ” مفهوم النص”. اذ جعل الدين مجرد بنية فوقية، هي انعكاس لما يعتمل في البنية التحتية من منطق الصراع الطبقي، أو قل منطق الغنيمة.

ويظهر هذا جليا في قول الكاتب:”ان الصحيفة( يقصد صحيفة المدينة) لم تستطع تجاوز الكثير من التقاليد السائدة في شبه الجزيرة العربية…” اذ كان الأولى على الأقل استعمال عبارة” حافظت على الكثير من التقاليد…” بدل العبارة السابقة التي يشتم منها رائحة العجز والقيد، وهو ما يسيء لرسالة الاسلام التي قلبت الدنيا رأسا على عقب وخلقت عالما جديدا تماما.

لقد أوقع رهان الكاتب، والذي يتجلى في الدفاع عن مدنية الدولة في الاسلام، في بعض الزلات. اذ اختزل الدين الاسلامي في شعار كبير هو” التعريف الانساني للعدل”. يقول:” لكن الجديد الذي أتى به الدين الجديد، وتجاوز به ماكان سائدا في زمانه، وسائر الأزمان الى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هو التعريف الانساني للعدل، وخاصة ما تعلق بالتمييز على أساس الجنس( ذكر أنثى)؛ أو العرق والقبيلة؛ أو الدين؛ أو التراتب الاجتماعي…الخ”ص230. دون الاشارة الى نسقية المنظومة الدينية الاسلامية. اذ لو كان الأمر كذلك لجب ميثاق الأمم المتحدة كل الأديان السابقة، لإلغائه كافة أشكال التمييز، وضمانه كل الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

عندما تحدث الكاتب عن جذور التفلسف السياسي في الاسلام، أحال على سياسة الخلفية العباسي المأمون التغريبية( بيت الحكمة). لكن المعروف تاريخيا، أن كتاب السياسة هو من أواخر ما ترجم من منظومة أرسطو الفلسفية، لأسباب ذكر منها الدكتور محمد عابد الجابري، منها رغبة المأمون في اقحام البرهان لمواجهة العرفان( خاصة الشيعي) بعد أن استنفذ البيان كل امكاناته، على حد قوله.

من الأشياء التي نخالف فيها الكاتب قوله، في سياق نشوء الحركات الكلامية، أن القرآن فقد قدرته الاستدلالية.اذ ما حصل، في الواقع، هو التجني على النص القرآني، بالسقوط في الاستدلال الفاسد، الناتج على مظاهر منها: التضمين؛ أي وجود أفكار جاهزة يتم اسقاطها على النص، أو التعامل البوليسي مع النص؛ حيث يتم استنطاق النص بما ليس فيه، أو التعامل اللصوصي؛ أي سرقة مقاصد النص واخفائها. فلا عجب أن نجد عصر التدوين، الذي بدأ مع ظهور الفرق الكلامية، ينشغل بوضع أصول الاستدلال السليم وقواعده، بتأسيس العلوم؛ نحوا وبلاغة وأصولا وعلوم قرآن، وتفسيرا ومنطقا وتأريخا..

لقد كان رهان الكاتب كما أشرنا الى ذلك سابقا هو التدليل على مدنية الدولة في الاسلام. فهي كما يقول:” دولة مدنية تاريخية خرجت من رحم الأحداث التي عاشها المسلمون.”

ولنا في هذا القول وفقات. فاذا كان الكاتب يعني بالدولة هنا معناها اللغوي، الذي هو مجرد انتقال من حال الى حال” وتلك الأيام نداولها بين الناس”، فهذا لا يطرح مشكلا. أما اذا كان يقصد بالدولة معناها الاصطلاحي؛ أي كيان تدبيري قوامه أرض محروسة وساكنة مراقبة وحكومة متسيدة، فهذا يعني أن الاسلام لا يكفي فيه أن يتضمن جملة قوانين، بل يحتاج الى أن يتخذ صورة دولة، وهذا أمر فيه نقاش، لأن الاسلام لم يسطر نظاما معينا، بل جاء الأمر مجملا غير مفصل، تخفيفا على الناس، ليتخذوا من أشكال تنزيل الشريعة ما يرونه أصلح وأنجع. وهذا لا يرجع الى ظروف المدينة البسيطة، كما يرى الكاتب. فان الذي فصل في تدبير الأسرة، وهي من دقِّ الأمور، أقدر على تدبير المجتمع، وهو من جلها. كما يقول الفيلسوف طه عبد الرحمان.

أما اذا كان الكاتب يعني بالدولة المدنية مجموع المؤسسات التي تسهر على تدبير شؤون الناس، فهذا لا يتطابق مع التصور الغربي للدولة المدنية، التي لاتعني، بالضرورة، الدولة الكهنوتية التي يهيمن فيها رجال الدين، الذين يتميزون بالعصمة في آرائهم، ويتوسطون بين الله وبين العباد، ويحكمون فيهم بالحق الالهي، بل يقصد بها الدولة التي تلغي الدين من كل مظاهر الحياة، وتجعله مسألة شخصية.

اذ لو كان الأمر مجرد مؤسسات لكانت الدولة الكهنوتية دولة مدنية، لأن لها الكثير من المؤسسات التي ترعى شؤون الرهبان، وتسهر على جمع الأعطيات وتدبير النفقات…بل ان ما يجهله البعض هو أن لفظة العلمانية Secularismانبثقت من رحم الكنسية الانجليزية التي كانت تميز بين فئتين من الرهبان هما: فئة الرهبان الدنيويين Secularclergy الذين كانوا مختصين في تدبير أمور الكنيسة، وفئة الرهبان العباد Regularclergy المنقطعين الى الصلاة والتأمل.

ما يطرحه تبني شعار الدولة المدنية في الاسلام، الذي سقط فيه كبار المفكرين أمثال محمد عمارة، الذي ربما يكون قد تأثر بالشيخ محمد عبده الذي رفع شعار الاسلام دين وشرع،والذي تأثر بدوره، على ما يبدو، بمفاهيم الدولة المدنية، من خلال نقاشه الطويل مع العلماني فرح أنطوان، هو التناقض اللغوي والمنطقي بين هذا الشعار والشعار الذي يرفعه الاسلاميون اليوم “الاسلام دين ودولة”. اذ لو كان الشعار الأول صحيحا؛ أي الاسلام دولة مدنية، لبطل الشعار الثاني؛ أي الاسلام دين ودولة. واليك توضيح ذلك.

تتكون جملة :الاسلام دين ودولة، من جملة اسمية خبرها مركب عطفي( دين ودولة)، بينما تتكون جملة: الاسلام دولة مدنية، من جملة اسمية خبرها مركب وصفي. والمعروف في اللغة العربية أن واو العطف لمطلق الجمع، اذ يصح تقديم كلمة دولة على كلمة دين، دون تغيير في المعنى. فنقول: الاسلام دولة ودين. والمعروف كذلك، في اللسان العربي، أن الاخبار بالمركب العطفييرداف دلاليا الاخبار بالمركب الوصفي. فجملة “زيد تلميذ ومجتهد” ترداف دلاليا جملة” زيد تلميذ مجتهد” بالرغم من الاختلاف الحجاجي بينهما. وعليه يلزم منطقيا من تصديق الجملة الأولى، تصديق الجملة الثانية. والعكس صحيح.

ولهذا اقترح الفيلسوف طه عبد الرحمان التمييز، في مفهوم الدولة الاسلامية، بين النسبة النفسية؛ التي تجعل الدين المرجعية لتدبير الدولة الاسلامية، المتربطة أساسا بالاجتهاد. اذ التعامل مع النص لا يمكن أن يتم خارج الاطار البشري؛ فهما وتأويلا وتنزيلا وتسييقا وفهما للقصد… وبين النسبة الروحية، التي تجعل تدبير الدولة محكوما بوازع ديني، يتحول فيه تدبير شؤون الخلق تعبدا للحق.

وبالعودة الى مصطلح الدولة، نجد أن أهم المفاهيم التي تحدده،ليس هو الشكل الذي يتخذه هذا الكيان، بل هو مفهوم السيادة التي تتجلى في السلط الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي سلط محكومة في الاسلام بالمرجعية النصية، فلا تشريع الا انطلاقا من نص، ولا قضاء الا فيما خالف النص، ولا تنفيد الا فيما قرره النص، أو اجتهادا فيما سكت عنه رحمة بالناس. اذ نجد الاشارة الصريحة في مسألة اختيار الحاكم الى نص الشورى، لكن التفاصيل تركت للاجتهادات البشرية، وهو ما حصل فعلا في مسألة تولية الخلفاء بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

واذا فهمنا هذه المرجعية التي حكمت الفعل السياسي، وخاصة في زمن الخلفاء الراشدين، يمكن رد تلكم الادعاءات الواهية التي تحمس لها بعض العلمانيين والاسلاميين ومنهم صاحبنا جبرون، حيث الصقوا بسيدنا عمر بن الخطاب تهمة تعطيل النص، وايقاف أحكام الشريعة بناء على المصلحة العامة، كما حصل في عام الرمادة وقضية المؤلفة قلوبهم وأرض السواد…مع أن سيدنا عمر كان أشد الناس حرصا على الالتزام بنصوص الشريعة حتى وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الترميذي، بقوله” أرحم الناس بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر…” فهل يعقل أن يخالف عمر رضي الله عنه نصا شرعيا قطعي الدلالة، وهو من هو في الفضل والمعرفة والحزم، وكيف يسكت كبار الصحابة عن تعطيل نصوص قطعية، وهو فعل لم يجرأ عليه حتى كبار طغاة هذه الأمة قديمهم وحديثهم.

ان اجتهادات عمر لم تخرج عن اطار النص،والمبادئ العامة والأصول المقررة، وكل ما في الأمر هو أن النصوص لم تعد تنطبق على هذه الفئات. فالمؤلفة قلوبهم كانوا مشركين يعطون ليكفوا أذاهم عن المسلمين، أومشركين من رؤساء القوم يعطون لتقريبهم من الاسلام، أو مسلمين حديثي العهد بالإسلام، مازالت تسيطر عليهمالقيم المادية. فلما حسن اسلام هؤلاء، وقوية شوكة الاسلام ارتفعت عنهم صفة المؤلفة قلوبهم، لكن هذا لا يعني أن تعطيل النص، اذ يمكن لدولة الاسلام أن تعمل به متى دعت الحاجة الى ذلك.

أمابخصوص ايقاف العمل بحد السرقة، فان عمر رضي الله عنه لم يطبق الا ما تقتضيه أصول الشريعة، لأن حد السرقة لا يقام على من سرق من مال له حق فيه، أو سرق وقد أشرف على هلاك، كما كان الحال في عام المجاعة، الا أن عمر ماكان ليوقف هذا الحد لو سرق أحد الأغنياء أو الميسورين في عام مجاعة أو عام رخاء.

أعتقد أن القول بالدولة المدنية في الاسلام، جاء في سياق ردود الفعل التي انطلقت من موقع الدفاع عن الاسلام، أمام الهجمات المنظمة التي يقودها الغرب من الخارج، والعلمانيون من الداخل. ولا شك أن الوقوف طويلا في خندق الدفاع أرهق أصحابه، وجعلهم يتنازلون شيئا فشيئا عن مبادئهم، كما حصل لنمر زكرياء تامر في اليوم التاسع، فبعد أن رفضالامتثال لمروضه في اليوم الأول، أصبحتحت قرصات الجوع يقلد مواء القطط ونهيق الحمار ويتعلم كيف يصفق، لكن الاهانة لم تتوقف، حتى حل اليوم التاسع ففرض المروض على النمر أكل الحشائش فما كان على النمر الا أن يستجيب. وهذا ما أصبحنا نراه، للأسف في عالمنا الاسلامي، من الانسياق الأعمى وراء ارضاء الآخرين، على حساب توابث أمتنا.

فالخوف أن نسمع يوما اسلاميا ينادي بحق الشواذ في توثيق الزواج وتبني الأطفال، أو الحق في كراء الأرحام وبيع الأجنة، تحت اسم الحداثة ومتطلبات العصر والطاقة الأخلاقية للإسلامن في الوقت الذي تفتخر فيه اسرائيل بأنها دولة دينية و تسعى جاهدة الى مؤسسة ذلك.

ان على الأمة أن تشمر عن ساعد العمل والاجتهاد، من خلال تحصيل العدة المنطقية واللغوية والحجاجية والمعرفية، وتصحيح الصورة عن دولة الاسلام العادلة، وقلب المفاهيم السائدة في الغرب، بالتي هي أحسن، حول مفهوم الدولة الدينية،عن طريق الندوات والمؤتمرات والترجمات والاعلام. فقد تكون هناك دولة دينية عادلة، كما شهدت بذلك محطات مشرقة في تاريخ الاسلام، في حين قد تكون هناك دولة مدنية ظالمة، كما هو حال النازية والفاشية والأنظمة الاستبدادية قديما وحديثا.