وجهة نظر

الدستور المغربي: أسئلة الديمقراطية

– مقدمة:

أكمل الدستور المغربي الحالي (تم تمريره بموجب استفتاء فاتح يوليوز 2011م) سنته الخامسة في فاتح يوليوز 2016م، ورغم هذه المدة التي مرت على إقراره لم يهدأ الجدل حول ديمقراطيته من عدمها. فهناك من يعتبره دستورا فارقا في تاريخ المغرب أسس لدولة الحرية والمؤسسات وقطع مع دولة “المخزن”، وأنه جاء بأكبر مما تطلعت إليه النخبة والشعب المغربي، وعلى الطرف النقيض هناك من يصفه بأنه مناورة سياسية ليس إلا بحكم الظروف التي أنتجته (الحراك المغربي الذي قادته حركة 20 فبراير)، واعتباره مجرد إعادة ترتيب السلطات في يد السلطة الحاكمة المتحكمة (المؤسسة الملكية) ومنح السلطات المنتخبة شعبيا (البرلمان والحكومة والمؤسسات اللامركزية) سلطات فضفاضة المبنى فارغة المعنى.

هذا الجدل سيدفعنا لطرح أسئلة الديمقراطية على الدستور المغربي لسنة 2011م من وجهة نظر القانون الدستوري، باعتبار المكانة المهمة والمصيرية التي يحتلها الدستور في أي نظام سياسي معاصر. فلم يعد توفر دولة ما على دستور معيارا لديمقراطيتها (أغلب دول العالم تتوفر على الدستور سواء كان عرفيا أو مكتوبا)، بل مضمون هذا الدستور وفلسفته هما المعيار: هل هو دستور سلطة أم دستور حرية؟

فالدستور هو مجموعة من القواعد التي تنظم شكل الدولة واختصاصات المؤسسات الوطنية العليا ويقر حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية والمبادئ التي تجعل الحكم بيد الشعب، وهذه الفكرة الاخيرة هي مناط ظهور الحركة الدستورانية.

وهكذا سنقف عند ديمقراطية الدستور المغربي من حيث نوعيته في المصدر ومسطرة التعديل (أولا)، ومسطرة وضعه وإقراره (ثانيا)، وآليات تحقيق سموه وعلو مكانته (ثالثا)، لنستخلص في النهاية هل هو دستور سلطة أم دستور حرية؟ (رابعا).

– أولا: سؤال النوع؟

يميز الفقه الدستوري بين نوعين من الدساتير من حيث مصدرها: دستور مكتوب في وثيقة وضعت طبقا لمسطرة خاصة ودستور عرفي يرتكز على العادات والتقاليد المجتمعية في تدبير الحكم (أنموذج بريطانيا). لكن الممارسات الدستورية المعاصرة اتجهت إلى المزج بين النوعين، حيث نجد دساتير مكتوبة بجانبها أعراف دستورية متممة أو مفسرة أو مغيرة للنص المكتوب، كما توجد إلى جانب الدستور العرفي نصوص مكتوبة مدعمة ومنظمة للأعراف الدستورية. ومن هذه الناحية فالدستور المغربي دستور مكتوب يستند إلى أعراف دستورية مختلفة.

أما من حيث مسطرة التعديل فالدراسات الدستورية تميز بين الدستور المرن الذي يتم تعديله بالطرق العادية التي تعدل بها القوانين العادية مما يعني فقدان الدستور لسموه أمام القوانين الأخرى، ودستور جامد يتطلب تعديله مسطرة خاصة ومعقدة تحفظ للدستور مكانته ورفعته أمام القوانين الأخرى، ويتم اللجوء أيضا إلى حظر موضوعي أو زمني لبعض فصوله. هذا الحظر قد يكون بمقصد ديمقراطي بضمان قداسة النص الدستوري وحمايته باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة، أو بقصد تحكمي استبدادي بمنع نصوص تتعلق بسلط الحاكم من التعديل.

ويمكن اعتبار الدستور المغربي من خلال هذه المسطرة دستورا جامدا بحظر موضوعي فيما يتعلق بالنظام الملكي (مبدأ مرتبط بشخص الحاكم) والدين الإسلامي (كعقيدة فردية وليس كمنهج سياسي)، والاختيار الديمقراطي للأمة والحريات والحقوق (وهي موضوع جدل بين من يعتبرها ديمقراطية واجهة أو ديمقراطية حقيقية بسبب الملاحظات الجوهرية على وثيقة الدستور كما سيأتي).

– ثانيا: سؤال مسطرة الوضع؟

ترتبط طريقة وضع الدستور ارتباط وثيقا بنية السلطة التأسيسية للدستور فهي إما أن تسعى لجعل الوثيقة الدستورية تعبيرا عن إرادة الأمة، فتعتمد في وضعه على طرق ديمقراطية وعلى رأسها طريقة الجمعية التأسيسية المنتخبة شعبيا، والتي إما أن تسند لها مهمة اقتراح الدستور فقط وعرضه على الشعب للاستفتاء الدستوري (الطريقة الثانية)، أو تخول لها مهمتي الاقتراح والمصادقة دون الرجوع للشعب مادامت تتمتع بالشرعية الشعبية. وبالمقابل قد تعكس طريقة وضع الدستور تغييب دور الأمة بأن يقترح الحاكم على الشعب دستورا مفصلا على مقاسه يجعل الدستور على شكل منحة يمكن أن تسلب من الشعب بإرادته المنفردة.

والمغرب وإن كان يعتمد طريقة الاستفتاء الشعبي، فإنها تبقى قاصرة أولا لكون اللجنة المكلفة بصياغة الدستور تكون معينة من طرف سلطة مفروض أن تخضع للدستور لا أن تكون فوقه (الملك) وبالتالي يطرح سؤال مدى استقلالية هذه اللجنة عن الجهة المعيِنة لها، وثانيا لأن الاعتماد على الاستفتاء وحده يقتضي وجود حد أدنى من الوعي والتعلم تجعل الشعب مالكا للسلطة بإقدامه على عملية الاستفتاء، وهذا ما يتعذر في مجتمع تغلب عليه الأمية. كل هذا ما يجعلنا نعتقد أن الدستور المغربي أقرب إلى المنحة منه إلى الدستور الديمقراطي.

– ثالثا: سؤال السمو؟

نعني بسمو الدستور التنصيص على مبدأ الرقابة على دستورية القوانين، أي التأكد من مطابقة جميع القوانين لروح الدستور وعدم مخالفة أحكامه، وهنا لا بد من وجود آلية تقوم بهذه الرقابة، ويمكن التمييز بين نوعين من الآليات: آلية سياسية بأن تقوم بمهمة الرقابة هيئة سياسية في تكوينها، وآلية قضائية بأن تسند مهمة الرقابة على دستورية القوانين إلى هيئة قضائية متخصصة ومستقلة سياسيا.
وقد انتقلت الرقابة الدستورية بالمغرب من مرحلة الغرفة الدستورية مرورا بالمجلس الدستوري إلى مرحلة المحكمة الدستورية. وإن كان المصطلح يوحي باعتماد الآلية القضائية فإن طريقة تشكيلها لا يبعدها عن الآلية السياسية، فنصف أعضائها البالغ عددهم اثنا عشر عضوا يعينون من طرف الملك (سلطة غير منتخبة) ويعين النصف الباقي مناصفة بين مجلسي النواب والمستشارين، مما يفقد أعضائها أي استقلالية عن المؤسسات السياسية التي رشحتها للمنصب.

– ربعا: دستور سلطة أم دستور حرية؟

إن فلسفة الحركة الدستورانية ظهرت أساسا للحد من سلطة الحكام وبناء أنظمة سياسية قائمة على أساس حرية الشعب في اختيار ممثليه وسن القوانين التي ستطبق عليه في النهاية. وبما أننا توقفنا عند طريقة وضعة الدستور المغربي وتعديله وآلية الرقابة على سموه، يتضح أننا بصدد دستور يسعى إلى تكريس سلطة المؤسسة الملكية التي نجدها حاضرة بقوة في كل مفاصل الدستور التأسيسية والفرعية، وكذا على مستوى الاختصاصات، فالملك يجمع بين رئاسة السلطة التنفيذية والقضائية والقدرة على حل السلطة التشريعية (اشكالية فصل السلط)، إضافة إلى سلطاته الواسعة في المجال الديني والعسكري وغيرها. كما أن الفصول المتعلقة بالمؤسسات المنتخبة أو بالحريات والحقوق إما أنها ترد عامة وتحيل على قوانين تنظيمية أو بمفردات قابلة للتأويل في أي اتجاه.

– خاتمة

اخترنا في مقاربة مدى ديمقراطية الدستور المغرب الحالي (2011م) المقاربة الدستورية مستبعدين المقاربة السياسية لكي لا نسقط في مأزق تأييد إحدى وجهتي النظر التي أشرنا إليها في المقدمة، وإلا فالمقاربة الصحيحة يجب أن تستحضر كل الظروف المحيطة بالوثيقة الدستورية سواء السياسية أو القانونية أو غيرها، باعتبار الدستور نتيجة تراكم وتداخل كل هذه الظروف.