وجهة نظر

بنعباد يكتب: “المنصة” واغتيال الديمقراطية

يعتز حزب العدالة والتنمية بأنه حزب ديمقراطي يلتزم أدواتها القاسية والغريبة عن الثقافة التقليدية المحافظة سواء كانت دينية أو سياسية في البلاد العربية الإسلامية، وأنه ماض في تكريس خط سياسي تكون الإرادة العامة هي التي تصنع المسؤولين.

يحق لهذا الحزب أن يفخر بنفسه وبما ينجزه من تطور ديمقراطي، في صحراء قاحلة لم تعرف التداول السلمي على السلطة في الأحزاب كما في الدول، فكل الناس تابعت وتتابع طريقة تدبير المؤتمرات الحزبية واللقاءات التنظيمية لشتى الفاعلين السياسيين من مختلف الحساسيات في البيئة العربية الإسلامية، حيث ينتهي الجمع إما إلى “انقسامات” أو تحسمه ممارسات “غير ديمقراطية”.

رغم كل هذا الشرف المستحق لحزب العدالة والتنمية، إلا أن “الكمال” طبيعة غير إنسانية، ولابد من نقص رغم محاولات “الكمال”، وإن بعض العيوب “الأخلاقية” بدأت تتسرب إلى هذا الصرح، وهي عيوب إن لم تعالج بالسرعة اللازمة قد تنضاف إلى غيرها لتهدم ما بني منذ عقود.

من بين العيوب التي تحولت عرفا وانتقلت بفعل الزمن إلى مسطرة قانونية، مسألة تدخل رئيس المؤتمر الذي يكون من هيئة (أعلى) في مداولات انتخاب مسؤول هيئة (أدنى)، فمن حقه أن “يوجه” المؤتمر إلى هذا الاختيار أو ذاك، مع افتراض حسن النية، كما يكون صوته مرجحا في حال تعادل الأصوات.

هذا العيب يسائل الديمقراطية باعتبارها اختيارا جماعيا حرا لا وصاية عليه، فما معنى “الديمقراطية”؟ وما “معنى الاختيار الحر”؟ وما معنى “حق الجماعة في الاختيار”؟ إن كان فرد واحد له حق وسلطة التدخل في هذا الاختيار والتأثير عليه والتشويش عليه.

العدالة والتنمية يقول دوما أنه ضد “التشويش” على إرادة الناخبين، بل ويحذر من “التأثير” عليها، فلنتخيل نمط اقتراع يشبه مساطر الحزب، حيث يكون لرئيس الدولة أو رئيس أي هيئة أو مؤسسة في الدولة حق توجيه الرأي العام بما يفضي إلى “التشويش” أو “التأثير” على الناخبين، كيف سيكون رد الحزب؟

صحيح أن رئيس المؤتمر المتدخل قد لا يكون خالف القانون ولا المساطر، لكنه انتهك روحه وجوهره بإخلاله للحياد المفروض في من يشرف على المؤتمرات، وأخل بـمبدأ “المنافسة وتكافؤ الفرص الشريفة بين المرشحين، في المؤسسة السياسية وهي مبادئ عامة مجمع حولها و مفترض أن تؤطر أي قانون أو مسطرة تنظيمية.

مستوى ثان في هذا العيب متعلق بالجانب “الأخلاقي” و”التربوي”، ليس من الأخلاق ولا التربية ولا النزاهة، أن تعلن نفسك “وصيا” على الناس تصادر اختيارهم، وتغلف التحكم في الاختيار والتوجيه القسري للناخبين بالحرص على المساطر.

مستوى ثالث يرتبط بالجانب الرمزي، فمسير اللقاء ومديره ورئيس المؤتمر، يملك عددا من “الأوسمة” الرمزية، التي تفضِّلُهُ عن البقية، فهو قيادي لأنه عضو هيئة أعلى، وهو صاحب “المنصة”، هذه السلط لها وقع كبير تتغافل عنها البيروقراطية لأنها تغنيها عن ساعات التداول الطوال.

الخطير هو أن اغتيال الاختيار الديمقراطي يفضي إلى خطين لا ثالث لهما، الأول الانسحاب النهائي من العمل، والثاني اللجوء إلى وسائل غير أخلاقية لمواجهة هذه المسلكية غير الأخلاقية من قبيل “الكولسة” و”التبييت القبلي”، فمن يتحمل مسؤولية هذا إذن؟.

فعوض الانتباه إلى هذا العيب وإزالته، هناك من يقاوم كل نقد لهذه الممارسة السيئة في الحزب الحسن، ويعتبرها حقا غير قابل للتنازل، بل منهم من يعتبر تدخله “فرض عين” واجب الاستعمال.

لهؤلاء المسطريين والقانونيين أسوق هنا موقفا للشيخ الفقيد عبد الجليل الجاسني، فلقد حكى أحد الأصدقاء، أن الراحل ترأس أحد الجموع العامة لحركة التوحيد والإصلاح، وأثناء عملية التداول “سكت” الشيخ، ولما انتهى المؤتمر أسر لبعض معارفه أنه كـ”شخص” له مآخذ على أحد المرشحين، لكنه فضل الصمت لأن الناس لم تكن تسمع رأي عبد الجليل الجاسني “الشخص”، بل كانت بين يدي “الشيخ الجليل المربي القيادي.. عبد الجليل الجاسني”.

تحرص البيروقراطية الحزبية على تبرير هذه المصادرة باسم اللوائح والمساطر، وأن القانون هو من يمنح هذا الحق، إلا أن هذا الفعل وفق الاعتبارات أعلاه وغيرها، يظل نقطة سوداء على هذا الحزب الذي يشهد الجميع بنصاعة بياضه.