منوعات

بويخف: الممكن والمستحيل في علاقة “البيجيدي” بـ”التوحيد والإصلاح”

(1) في “تشريح” الوحدة والهيكلة

عاد موضوع علاقة “حزب العدالة والتنمية” و”حركة التوحيد والاصلاح” إلى الواجهة من جديد مؤخرا، لكن هذه المرة من طرف بعض الأعضاء من شباب حزب المصباح أنفسهم، وفي سياق خاص يتعلق بالديناميكية المرتبطة بما عرف بـ”الولاية الثالثة”، حيث أثيرت تلك العلاقة في موجة الجدل الذي سبق انعقاد المؤتمر الثامن للحزب واستمر بعده. وفي ذلك الجدل طرحت تلك العلاقة من زوايا مختلفة يجمعها خيط ناظم وهو زعم وجود قدر من “التأثير” في قرار الحزب من طرف الحركة، مما يفرض، حسب ذلك الزعم، إنهاء تلك العلاقة أو مراجعتها بما يحقق الاستقلالية الكاملة بين الهيئتين.

ومند بدء إعادة هيكلة حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية سنة 1996، الذي سيغير اسمه إلى حزب العدالة والتنمية، وموضوع علاقته بالحركة الدعوية التي أعادت هيكلته يطرح إما داخل تلك الحركة نفسها، أو داخل الحزب أو من خارج الهيئتين في وسائل الاعلام او داخل بعض “الصالونات السياسية”. لكن خلفيات طرح الموضوع داخل الحركة تختلف عن تلك التي تحكم طرحه داخل الحزب، وتتناقض الخلفيتان معا مع خلفية طرحه من طرف فاعلين خارجيين، سواء تعلق الأمر بالفاعل الحزبي أو الإعلامي أو غيرهما.

وقبل مقاربة فهم دواعي إعادة طرح الموضوع من طرف شباب في الحزب، ومدى واقعيته وجدواه، تفرض المعالجة المنهجية وضع الموضوع في سياقه التاريخي. لأنه من غير هذا التأطير المنهجي، يصعب إدراك الحدود بين الممكن والمستحيل في تدبير العلاقة بين الهيئتين، وإدراك الحساسية التي تحيط به، والدلالات السياسية التي ينطوي عليها.

تشكيل “جينوم” البيجيدي

قبل الخوض في تموجات إثارة العلاقة بين الحزب والحركة التي هيكلته، لابد من وقفة تحليلية مركزة لمرحلة إعادة هيكلة حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية. وفي التقدير، تمتد تلك المرحلة على قرابة أربع سنوات، من سنة 1996 حيث انعقد المؤتمر الاستثنائي للحزب ليدمج رسميا أطر الحركة الدعوية في هياكل الحزب مركزيا، ويفتح باب التعبئة للانخراط الواسع في الحزب في صفوف أعضاء الحركة وطنيا. وسنة 2000، وهي السنة التي تم فيها تنزيل ديناميكية الهيكلة الشاملة التي فتحها المؤتمر الرابع المنعقد سنة 1999، والذي انطلقت فيه عملية الدمج الهيكلي ليشمل جميع المستويات، الوطنية والجهوية والمحلية.

وفي هذه المرحلة التي تمت فيها هيكلة الحزب، تَشكل “الجينوم الجديد” (المجموع الوراثي) الذي حمله حزب المصباح، والذي يرجع في غالبيته العظمى إلى حركة التوحيد والإصلاح التي شكلت المصدر الرئيسي للموارد البشرية التي سمحت بتلك الهيكلة على اعتبار أن الحزب حينها لم يتبقى فيه سوى عشرات من الأعضاء، وذلك بسبب غيابه الطويل عن الساحة السياسية، وضمنهم قيادات وطنية كبيرة من أمثال الدكتور عبد الكريم الخطيب، والأستاذ بنعبد الله الوكوتي، رحمهما الله. وأصبحت الموارد البشرية التي شكلت العمود الفقري للحزب وقواعده في انطلاقته الجديدة، من أبناء الحركة، قيادات وقواعد، أعضاء وهياكل، وطنيا وجهويا ومحليا.

ولا ينبغي النظر إلى مسألة الهيكلة التي خضع لها حزب الخطيب من الناحية الكمية فحسب، بل أيضا من ناحية القيم التي حملها إليه الوافدون الجدد، والتي شكلت شخصية الحزب الجديدة، والتي تجلت في مختلف المجالات، من تغيير اسم الحزب ليصبح بداية من 1998 “حزب العدالة والتنمية”، إلى الخطاب والمواقف السياسية، مرورا بتشكيل منظومة الرؤى والقوانين التي تحكمه. ولعل أبرز مثال على ذلك، نظام الانتخابات للمسؤولية داخل الحزب، والذي ما يزال معتمدا إلى اليوم، فهو نظام فريد من نوعه ورثه عن حركة التوحيد والإصلاح، خاصة في أساسه المتعلق بالترشيح الجماعي بدل الترشيح الشخصي الحر.

وبالنظر إلى حجم الموارد البشرية ذات المصدر الحركي كما ونوعا داخل الحزب، وبالنظر إلى التحولات القيمية التي عرفها الحزب الجديد يمكن توصيف الوضع الجديد في تلك الفترة بالقول إن الحركة “حلَّت” في الحزب. وفي طبيعة هذا “الحلول” وحده يمكن إيجاد تفسير حقيقي للحديث عن أن الهيئتين تجمعهما “شراكة استراتيجية”. وهي بالفعل “شراكة جينومية” معقدة لا تنظمها وثيقة ولا اتفاقات مكتوبة، بقدر ما “تنظمها”، من جهة أولى، العلاقات العضوية والفكرية والنفسية المشتركة بينهما، ومن جهة ثانية، “تفاهمات” غير موثقة، وما يشبه “عقيدة” راسخة في أذهان أجيال من القيادات (الصف الأول، وجزء كبير من الصف الثاني)، وأجيال من القواعد (“قدماء” الأعضاء).

وفي هذا المستوى من التحليل يمكن فهم المقصود في العنوان بالممكن والمستحيل في العلاقة بين الهيئتين، والذي سوف نعالجه بالتفصيل لاحقا.

حركة برافدين

إن الحديث عن الحركة التي “حلت” في الحزب لا ينبغي أن يخفي أمرين حيويين. الأمر الأول يتعلق بكون تلك الحركة كانت بدورها حديثة التشكيل من تنظيمين دعويين، وهما “حركة الإصلاح والتجديد” و”رابطة المستقبل الإسلامي”، وهذا يعني أننا في الواقع أمام رافدين من الموارد البشرية، يختلفان من حيث الحجم، ومن حيث الانتشار الجغرافي، ومن حيث الخلفية الفكرية والسياسية، … والأمر الثاني هو أن انطلاق هيكلة الحزب، من جهة، والدخول الرسمي في الوحدة بين التنظيمين الدعويين، من جهة ثانية، تما في نفس التوقيت تقريبا، ولم يفصل بينهما سوى ما يزيد قليلا عن شهرين من الزمن، حيث أن المؤتمر الاستثنائي للحزب الذي فتح باب دخول أبناء الحركة الاسلامية بشكل رسمي إليه انعقد في يونيو 1996، وتلك الوحدة بين التنظيمين الدعويين تمت رسميا بتاريخ 31 غشت 1996. وهذا يعني أننا واقعيا أمام كتلة بشرية غير “متجانسة”. وهذه الكتلة دخلت الحزب على دفعتين متباينتين، الدفعة الأولى تمت في المؤتمر الاستثنائي للحزب وهمت بالخصوص أطر “حركة الإصلاح والتجديد”. والدفعة الثانية شملت أيضا المنحدرين من “رابطة المستقبل الإسلامي” بعد وحدة التنظيمين الدعويين.

وهذا المعطى المتعلق بالرافدين اللذين شكلا “حركة التوحيد والاصلاح” مهم للغاية في فهم جوانب مهمة في الديناميات الداخلية التي عرفها الحزب. ذلك أن البيئة الحزبية الحاضنة للرافدين مع قدماء الحزب، لم تساعد في إذابة الفوارق بينها، لطبيعتها السياسية المتعلقة بالتنافس حول السلطة داخل الحزب ولضعف التأطير السياسي والفكري والخوف من مواجهة الحقيقة والمراهنة على نوع من “سياسة تأليف القلوب” بالعضوية في الهيئات التنظيمية، خاصة الأمانة العامة والمجلس الوطني، وفي الترشيح للانتخابات البرلمانية بالخصوص. عكس البيئة الدعوية الحاضنة التي شكلتها الحركة، والتي تميزت في تلك الفترة بثقافة “الزهد” في المناصب التنظيمية والمسؤوليات، ووجود تأطير خاص باستكمال الوحدة الداخلية في مختلف المستويات الفكرية والنفسية، وهو ما سرع عمليات “الانصهار” بين الرافدين فيها بشكل اوسع وأعمق مما تم في الحزب.

وحدة فتية تحت تمرين الحزبية

التركيب الثلاثي للحزب بعد هيكلته، في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها، أمر واقع أدركه الجميع، ودخل عمليا كسياسة لـ “تأليف القلوب” في اعتبارات هندسة الحزب. وسياسة “تأليف القلوب” المعتمدة فرضتها عدة اعتبارات، أهمها أن الوحدة التي تمت بين الفصيلين الدعويين داخل الحركة الجديدة، من جهة، ومع قدماء الحزب من جهة ثانية، لم تعمر بعد مدة كافية للحديث عن اندماج فكري ونفسي وسياسي بين المكونات الثلاثة داخل الحزب. والاعتبار الثاني يتعلق بانعدام التكافؤ بين تلك المكونات، وبالخصوص من حيث الحجم، ومن حيث الانتشار الجغرافي. حيث أن الرافد المنحدر من “حركة الإصلاح والتجديد” يعتبر بشكل موضوعي مهيمنا في تلك المستويات. وهذه الاعتبارات هي مما قضى باتباع سياسة التأليف المُراهِن على الوقت بين تلك المكونات، واتباع الأشكال الأكثر مرونة في الديموقراطية الداخلية. وهو ما تسمح به الصيغ التنظيمية المعتمدة في تشكيل هياكل الحزب والتي تعطي للمسؤول حق اختيار فريقه بمصادقة الهيئة التي انتخبته، مما يساعد في تخفيف منطق الأغلبية العددية الراجح لصالح المنحدرين من “حركة الاصلاح والتجديد” في تشكيل تلك الهياكل، مما يسمح بخلق التوازن بين عناصر التركيب الثلاثي من جهة، والتوازن مع نظام الترشيح الجماعي المعتمد، من جهة ثانية. لذلك كانت تشكيلات الأمانة العامة للحزب مثلا، تعكس ذلك “التوازن” تقريبا باستمرار.

وسياسة “تأليف القلوب” تلك استمرت، إلى ما بعد المؤتمر الخامس سنة 2004 حيث سلم الدكتور الخطيب مفاتح الحزب للقيادات الجديدة، واستمرت حتى بعد انفصال محمد خليدي عن الحزب ليؤسس “حزب النهضة والفضيلة” في 25 دجنبر 2005.

“ورقة” العلاقة بين الهيئتين

وبما أن الانصهار الكلي بين عناصر التركيب الثلاثي في بوتقة الحزب، كما أشرنا إلى ذلك، لم يتحقق خلال مرحلة هيكلة الحزب، فسيتم اعتماد “ورقة” علاقة الحزب بالحركة التي هيكلته مدخلا ووسيلة للتموقع الداخلي تحت تأثير عقلية “الأقلية” أمام المجموعة الأكبر الوافدة عبر رافد “حركة الاصلاح والتجديد”، وذلك في “كل” المحطات التنظيمية التي تهدف إلى تقاسم السلطة داخل الحزب. واتخذ ذلك الاعتماد صيغا مختلفة مع إنتاج خطاب داخلي معارض ينسج علاقات مع الفاعل الإعلامي خارج الحزب.

ومن تلك الصيغ نجد “الانفصال” عن الحزب وتشكيل حزب جديد (محمد خليدي مع بعض قدماء حزب الخطيب) بعد فشل ورقة إنشاء جمعية كان هدفها “خلق التوازن” مع حركة التوحيد والاصلاح داخل الحزب. ومنها أيضا المطالبة بتشكيل تيارات داخل الحزب، والتي انتهت سياسة “عرف مراعاة التركيب الثلاثي” باحتوائها… وسنقارب هذه الصيغ بما يناسب سياق إثارتها في هذا المقام، مع مقاربة تفسيرية للوضعية الحالية التي تلاشى فيها اعتبار “الأصل” المحكوم بـ”سيكولوجيا الأقلية” في تشكيل أرضيات “التموقع” في “التجاذبات” الجارية اليوم داخل الحزب، ويثار خلالها أيضا موضوع العلاقة بين الحزب والحركة.

أما داخل الحركة الدعوية فموضوع العلاقة بينها وبين الحزب قد أثير أيضا بقوة من طرف أعضائها، ووجد له صدى على مستوى قرارات تنظيمية اتخذتها الحركة، وعلى مستوى وضع قواعد قانونية لضبط تلك العلاقة.

وإذا كان المحرك لإثارة العلاقة بين الهيئتين داخل الحزب يرجع إلى “الصراع” الطبيعي حول تقاسم السلطة داخله، فإن الدافع الرئيسي لطرحه داخل الحركة هو لحمايتها من التهديد الذي أصبح يمثله الحزب، خاصة فيما يتعلق بنزيف الموارد البشرية الذي عرفته لصالح الحزب. وهو ما سنقاربه أيضا لاحقا بما يناسب السياق.

أما إثارة علاقة الحزب بالحركة من طرف مختلف الفاعلين الخارجيين، المؤسساتيين والحزبيين والإعلاميين والخبراء وغيرهم، فعرفت وثيرة متصاعدة واشتدت بالخصوص مند 2002 حين سجل الحزب أكبر اختراق انتخابي غير متوقع، وحصد 42 مقعدا في البرلمان، وضاعف بذلك عدد مقاعده ثلاث مرات مقارنة مع الانتخابات السابقة، وسجل نفسه كقوة سياسية صاعدة يضرب لها ألف حساب. وفي هذا المجال المرتبط بالفاعل الخارجي جاءت حالات إثارة العلاقة بينهما في معظمها لتصريف استراتيجيات إضعاف الحزب بالدرجة الأولى.

وهكذا نجد أن موضوع العلاقة بين حزب المصباح وحركة التوحيد والإصلاح التي هيكلته يطرح داخل الحركة و داخل الحزب و خارج الهيئتين. لكن ليس بنفس الدوافع ولنفس الغايات.

وللمساهمة في تفكيك بعض العقد التي تحيط بالموضوع، ووضع معالجته خارج التجاذبات السياسية الجارية حوله، خدمة للحقيقة وإنصافا للتاريخ، نقترح مقاربته منهجيا من خلال أربعة محاور رئيسية، محور يعالج دوافع طرح الموضوع داخل حركة التوحيد والإصلاح، ومحور يعالج ملابسات طرحه داخل الحزب، ومحور يعالج سياقات طرح الموضوع من خارج الهيئتين، ونختم بقراءة تحليلية تنتهي بتأطير منهجي لحالات إثارة الموضوع اليوم من بعض شباب الحزب، في محور رابع. وسوف نخص كل محور بمقال واحد على الأقل بحول الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *