مجتمع

طانطان: من جنة تجري من تحتها المياه إلى أرض جدباء تبحث عن قطرات

روبورتاج من إعداد نادي الصحافة بثانوية محمد الخامس التأهيلية- طانطان، وإنجاز التلاميذ: “آية حمو، مريم اعبلا، رشيد دومة، محمد الدهين”

“تغادر مليكة (35 سنة) فراشها قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر كل يوم، وتتجه مسرعة والنوم يغالبها نحو صنبور المياه المثبت في بهو المنزل. قناني من فئة 5 و10 و30 لترا موضوعة قرب الصنبور تنتظر قطرة ماء. في أغلب الأوقات تنتظر مليكة القاطنة بحي الشيخ عبداتي ساعات طويلة دون أن تتمكن من ملء هذه القناني والبراميل بالماء الصالح للشرب، معاناة تتكرر يوميا، وتزداد تعقيدا مع إطلالة كل صيف”.

مدينة مرتبطة بالماء

يحكى أن أحد الرحل تاه في الصحراء المغربية إلى أن أصابه الظمأ، فكاد أن يقضي نحبه، وتهلك ماشيته. بحث عن بئر ماء يرتوي منه وترتوي معه ماشيته فلم يجده، واصل البحث وكله أمل في قطرة ماء، مر عبر آبار عديدة، فوجد ماءها قد نضب. واصل المسير إلى أن بلغ بئرا عميقا جدا لا يرى من قاعه شيئا، فشك في أمره. رمى حجرا صغيرا في البئر وأصاخ السمع جيدا، فسمع صوت الحجر يرتطم بالماء محدثا صوتا على شكل “طنطنة”، فأطلق اسم “الطنيطنة” على هذا البئر الذي سيصبح فيما بعد النواة الأولى لمدينة ستحمل اسمه، إنها “طانطان”. مدينة ساحلية تقع وسط المملكة ما بين مدينتي كلميم وطرفاية، لا يمكن لأي عابر نحو الجنوب أن يمر إلا عبرها، ولا يمكن لأي مار نحو الشمال إلا المرور من وسطها، لذلك أطلق عليها مدينة “العبور”، تعداد سكانها يصل إلى 73.209 ألف نسمة.

مدينة طانطان ارتبط تأسيسها بالماء، إذ لولا هذا البئر لما كان فيها بناء وعمران. منطقة كان الماء يطفو من آبارها التي تعددت بتوالي البناء والتشييد، ماء عذب سائغ شرابه لذة للشاربين. قبل عقود، وعندما كانت المدينة في طور البناء كانت العربات المحملة ببراميل الماء تجوب الشوارع لبيع الماء للسكان، كان ثمنه آنذاك لا يتجوز سنتيمات معدودة، كما كانت بعض النسوة والرجال ينتقلون فرادى وجماعات نحو بعض الآبار التي كانت لا تبعد سوى بأمتار قليلة عن أحياء المدينة. بعد ذلك تمكن السكان من ربط منازلهم بشبكة الماء الصالح للشرب، بعد أن عرفت المدينة تمدنا، وصارت صنابير المياه تجود على السكان بمياه بأثمان بخسة. حينها لم يكن يدر في خلد أهل المدينة أن هذا الماء الزلال المصبوب سينحبس يوما، فحتى الآبار لم يكن يتجاوز عمقها بضع أمتار، فالجميع كان يعتقد أن طانطان حباها الله بنعمة الماء الذي لا ينضب.

مدينة تصدر الماء

وأنت تتجول في كل مدن الأقاليم الجنوبية، سواء بالعيون، السمارة، بوجدور، طرفاية أو حتى الداخلة في أقصى الجنوب، لا تخطئ عينيك شاحنات صهريجية تبيع الماء لساكنة هذه الأقاليم، بل إن الناس يتهافتون على مياه هذه الشاحنات، باعتباره ذو جودة عالية، سائغ شرابه، ويصلح أيضا لإعداد الشاي الذي له طقوس خاصة في هذه الربوع. وعندما تمعن النظر أكثر في هذه الشاحنات الصهريجية تجد عليها عبارات مكتوبة بخط واضح جدا “ماء طانطان”. لقد أصبح هذا الاسم علامة تجارية مرتبطة بجودة مياه هذه المنطقة التي عرف بها منذ عقود عديدة. كما أن الطلب على مياه هذه المنطقة صار مطلوبا ومصدر ربح لعدد من أرباب الشاحنات الذين يفضلون هذه التجارة التي لا تبور. وقبل سنوات قليلة حط مصنع لتعبئة مياه المائدة الرحال بالمدينة، وأصبح يعبأ قناني مختلفة الأحجام وبيعها في مختلف مدن المملكة.

بداية الأزمة .. نهاية القطرة

قبل حوالي سنتين تقريبا، لم تعد تلك الصنابير المثبتة في المنازل تجود بمياهها في كل لحظة وحين، بل أصبحت الانقطاعات تتوالى لفترات مختلفة في اليوم الواحد، بل أحيانا تستمر هذه الانقطاعات لأيام مختلفة. في البداية لم يعر الأهالي للأمر أي اهتمام، فقد كان الاعتقاد في البداية أن هذا المشكل الطارئ سيزول بعد حين، وأن الأمر قد يكون مرتبطا فقط بإصلاحات في القنوات، أو في التوزيع. لكن في حقيقة الأمر لم يكن كذلك، فهي انقطاعات مرتبطة بنضوب مياه الآبار التي كانت تزود الساكنة. فالمدينة التي كانت عبارة عن جنة تجري من تحتها المياه، صارت في أزمة خانقة تهدد مستقبل الأجيال. فالفرشة المائية بالمنطقة عرفت استنزافا مهولا طيلة سنوات متواصلة، والآبار المتواجدة بمنطقة “تعسالت” لم تعد تكفي مياهها القليلة لتلبية الحاجيات المتزايدة. بعدما ضاقت الساكنة درعا بالوضع أضحت تخرج بشكل عفوي للشارع احتجاجا على انعدام الماء.

تحلية مياه البحر .. آخر الكي

تقول العرب، “الكي آخر الدواء”، هذا ما لجأ إليه مسؤولو المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، حيث سارع المسؤولون في محاولة لتدارك الوضع، وإنقاذ المدينة من شبح عطش بدأ يرخي بظلاله على المدينة التي عرفت مياهها عملية استنزاف كبيرة. وهذه المحاولة تتعلق بإنشاء محطتين لتحلية مياه البحر. الأولى أنشئت سنة 2003، والثانية سنة 2014. تشييد المحطتين جاء بعدما نصب مياه الآبار، وبعد تزايد الطلب على الماء.

ومن أجل معرفة كيفية اشتغال محطة التحلية، كانت لنا زيارة إلى محطة “خنك لحمام” التي تزود المدينة بالماء الصالح للشرب. يقول مهندس جودة المياه مصطفى عدناني أن هذه المحطة تشتغل هذه المحطة وفق “تقنية التناضح العكسي”، التي تمر عبر أربع عمليات منها ما قبل المعالجة التي تتم فيها إزالة العوالق والشوائب، ثم مرحلة المعالجة التي تتم بواسطة الضغط العالي لفصل الأملاح عن الماء، لأن الماء المستخرج من الأثقاب المتواجد بمنطقة “رأس أومليل” ماءها مالح نسبة تتراوح ما بين 4 و5 غرام في اللتر الواحد. وبعد الحصول على ماء مصفى، يضاف إلى نسبة من الماء المالح لإعادة التوازن. وتنتج هذه المحطة ما مجموعه 35 لتر في الثانية من الماء الصالح للشرب خاضع للمعايير، والذي يجمع في أربع خزانات سعتها مجتمعة 3000 متر مكعب، يضاف إليه محلول “الكلور” أي “جافيل” بنسبة 0.5mg/l.

التحسيس هو الحل

لقد عاش سكان مدينة طانطان فترتين مختلفتين خلال سنوات فقط، فترة كان فيها الماء الصالح للشرب يتدفق من الآبار المتواجدة وسط المدينة وفي الصنابير بالبيوت ليل نهار، ماء عذب فرات، والآن لم يعد لهم سوى الحنين لهذه الفترة آملين في عودتها. وبعدما تم تجريب بعض الحلول، بدا أنها هي الأخرى متعثرة، ليبقى أمام الجميع حل واحد هو “الإحساس” بأهمية الماء وقيمته، وهذا الإحساس ينبغي أن يترجم كسلوك وكممارسة في كل علاقتنا بالماء. إن تبذير الماء، هو تبذير لحق من حقوق الأجيال القادمة من أجل العيش في عالم مستقر، كما أن هذه الثروة الطبيعية هي ملك مشترك للجميع، تستوجب المحافظة عليها كما تركها الأولون، كي تجدها الأجيال القادمة. فأي مساس بهذه الثروة هو تهديد للحياة برمتها وإعاقة للتنمية المستدامة. كما أن شح المياه وانعدامها من العوامل التي تؤثر على الأمن الغذائي واختيارات سبل المعيشة في مختلف أنحاء العالم بحسب الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة الـ 17.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *