أخبار الساعة

لماذا يحاكم الشيخ سلمان العودة؟

لعل ثامن العجائب السبع؛ أن توجه تهم الإرهاب لعالم معتدل منفتح بحجم الشيخ سلمان بن فهد العودة ..

ولنفهم جانبا مهما من أسباب ظلم الأمير محمد بن سلمان لهذا العالم المفكر المصلح النهضوي؛ لابد أن نراجع كتاب الشيخ سلمان: “أسئلة الثورة”؛ الذي صدر سنة 2012 عن مركز نماء للبحوث والدراسات بلبنان؛ وهو كتاب مفيد يقدم آراء نافعة في موضوع الإصلاح والتغيير وسبل نهضة الأمة الإسلامية في إطار ما يكتنف واقعها الحالي وتاريخها المعاصر من تحديات لم يسبق لها مثيل ..

وبدهي أن قارئ كتاب الدكتور العودة قد يخالفه في بعض آرائه وتقييماته؛ ولا يمكن لكتابه أن يرفع فوق مستوى النقد ..

إلا أن هذا النقد لن يكون نافعا ولن يقدم خدمة مفيدة لواقع الإصلاح والنهضة؛ إذا كان مسيسا فاقدا للاستقلالية الفكرية والعلمية.

وهو الوصف الذي رأيته ينطبق على كتاب: “الجناية على الإسلام في كتاب أسئلة الثورة” لمؤلفه السعودي الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، المطبوع عام 2013 بدار غراس بالكويت.

والذي جعلني أظن بأن النقد في هذا الكتاب موظف سياسيا –بغض النظر عن إدراك صاحبه أو لا-؛ أن المؤلف يتمحل في تحميل بعض كلام الشيخ سلمان ما لا يحتمل، ويستلزم منه ما لا يلزم، بل يختلق تهما يولدها من كلام لا يمت لها بصلة ولا يدل عليها من قريب ولا من بعيد، بل إنني لاحظت أنه انتقده بشدة في مواضيع لم يفهم فيها كلام الشيخ أصلا!

ولعل القارئ يوافقني على هذا التقييم إذا اطلع على المعطيات التالية:

1 حَكم الشيخ فهد على الشيخ العودة بأنه يهون من تطبيق الشريعة، وأنه يخوف الناس من تطبيقها؛ وأخذ ذلك من كون الشيخ اكتفى بالقول بسيادة الشريعة!

وفي هذا السياق نسب إليه تهما تتعلق بتطبيق الشريعة؛ مع أن الشيخ العودة لا يتحدث عن حال الاختيار؛ ولكن عن واقع مفروض على الدول الإسلامية؛ وعن أفضل ما يمكن فعله في مثل هذا السياق؛ ولو أن الشيخ فهد نظر إلى الموضوع من هذه الزاوية لما استطاع أن يقترح حلا أفضل مما اقترحه الدكتور العودة؛ وهذا هو الفرق بين العالم الفقيه الإصلاحي المفكر، والعالم النظري والداعية العاطفي؛ فالأول يشخص الداء ويقترح الدواء الممكن بفكره العميق وحسه الواقعي؛ أما الثانيان فيبقيان في كثير من الأحيان في سماء المثالية والمدينة الفاضلة دون أن يرشدوا الناس إلى أفضل ما يمكن فعله.

وفي هذا الإطار أيضا؛ استلزم الشيخ فهد من كون الديمقراطية أفضل من الاستبداد بأن العودة يجوز أن تعرض شرائع الإسلام وأصوله على الناس وأن يقبلوا منها ما شاءوا ويترك منها ما شاءوا!

2 استلزم الشيخ فهد من استحسان الشيخ سلمان لجوانب من نظرية العقد الاجتماعي للمفكر (جان جاك روسو) بأن الشيخ العودة يقول بأن عقد بيعة ولي الأمر لابد أن يكون برضا جميع الناس، وأن البيعة لا تصح إلا بذلك.

وفي هذا السياق أوهم المنتقِد ما لا يلزم في حديثه عن “الدولة المدنية” و”الدولة الدينية”؛ واتهم الشيخ العودة بزلات دون أن يحرر المفاهيم المتعلقة بذانك المصطلحين السياسيين؛ وأيتها اختار الشيخ سلمان ..

وقد زعم الدكتور فهد بأن كتاب الشيخ العودة اشتمل على تأييد العلمانية بلحن من القول!

مع أن الشيخ يتحدث عن واقع دول معينة، وكيفية التعامل مع ذلك الواقع بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، ودفع أكبر المفسدتين بأخفهما.

وهنا أجدني مطمئنا للجزم بأن الشيخ فهد لم يفهم كثيرا مما انتقده على الشيخ العودة؛ وأن ثقافته في موضوع السياسة متواضعة جدا؛ ولا تخول له مناقشة المضامين العميقة التي طرحها الشيخ العودة الذي يتجلى في فكره قدر كبير من الوعي والواقعية في التمسك بالكتاب والسنة، وتبني مرجعية الشريعة الإسلامية الغراء في واقعنا المعقد.

3 انتقد على الشيخ قوله بأن مشروع نهضة الأمة إنما يقوم بجميع فصائلها!

مع أن توقف نهضة الأمة على جميع مكوناتها الحية أمر ضروري ومفروض، ولا يتصور حصر مصدر النهضة في طائفة معينة؛ لا سيما تلك التي تريد احتكار صفة: الفرقة الناجية!

وهنا نشاهد مظهرا من مظاهر الحمق حين نرى أشخاصا تقوقعوا وسجنوا أنفسهم في أفكار ضيقة جدا؛ تجعل عقولهم عقيمة عن اقتراح حلول واقعية لمشاكل الأمة؛ ومع ذلك يدعون أنهم الفئة العالمة المنصورة المالكة للحقيقة المطلقة، ويحكمون على كل من لم يدخل سجنهم بأنهم ضالون عن الصراط المستقيم.

4 وانتقد الشيخ فهد على الشيخ العودة؛ بأنه دعا إلى سيادة القانون والقبول بالتعددية والاختلاف!

وهو الصواب الذي ينبغي الالتزام به؛ وهو ما دلت عليه نصوص قرآنية وحديثية؛ إلا أن الشيخ فهد لا يدرك بأن مفهوم ولي الأمر هو أوسع بكثير من كونه منحصرا في شخص معين؛ بل يشمل اليوم كل مكونات النظام السياسي؛ وفي مقدمتها الدستور والقوانين المنبثقة منه والمؤسسات التي وضعت لتنفيذه ومراقبة ذلك التنفيذ والفصل في النزاعات المتعلقة بذلك ..

5 انتقد على الشيخ استشهاده بكلمات لفلاسفة من غير المسلمين في موضوع الفكر السياسي؛ وهذا أمر لا غبار عليه؛ فالحكمة ضالة المؤمن؛ والفكر الإنساني أنتج في السياسة والإدارة من الأفكار والآراء النافعة الشيء الكثير؛ فرفْضُ ذلك أو تجاهله خطأ وتقصير كبيرين ..

6 انتقد الشيخ فهد على الشيخ العودة كونه أضاف على الضرورات الخمس التي ذكرها بعض العلماء؛ ضرورات أخرى!
وكأن تلك الضرورات قرآن لا تجوز الزيادة عليه؛ مع أن عددا من العلماء الأقدمين زادوا على الخمسة؛ فمنهم من جعلها 6 ومنهم من جعلها

7؛ وهذه كلها تقسيمات تفهيمية قابلة للتحيين ومواكبة التطور البشري.

7 اتهم الشيخ فهد الشيخ العودة بأنه يجيز عدم الالتزام بتفاصيل الأحكام الشرعية، وأنه يسوغ للحكام التفلت من أحكام الشريعة التفصيلية!

ومع أن هذه التهمة باطلة؛ فإنني أتساءل: لماذا لا يوجه الشيخ فهد هذا النقد لأنظمة دول الخليج التي انتهكت مبادئ الشريعة فضلا عن كثير من تفصيلياتها؛ فأيهما أولى بالنقد: الذي انتهك الحكم الجزئي أم المنتهك للحكم الكلي؟

وهنا نسأل الشيخ فهد على سبيل المثال:
ما حكم السماح لدولة إمبريالية غير مسلمة باستعمال أراضي المسلمين وأموالهم لمحق دولة مسلمة وتخريب عمرانها وتاريخها وحضارتها؟

ففي الوقت الذي كان الشيخ العودة يصرخ في الخليج مؤكدا الحكم الشريعي الواضح في حرمة ذلك؛ خالفه العلماء الرسميون!
ونحن نرى اليوم أن رأي الشيخ العودة قبل 20 سنة؛ كان هو الصائب وأن رأي مخالفه كان باطلا ومدخلا لتخريب المنطقة من العراق إلى سوريا واليمن ..

فهل ننتظر 20 سنة أخرى؛ لندرك زلة محاكمة عالم بحجم سلمان العودة على آراء أكثرها نافع ومفيد لنهضة الأمة؟؟

8 ومن حماقات الشيخ فهد أنه اتهم الشيخ العودة بأنه اعتدى على مقام السنة النبوية وعلى مقام الخلفاء الراشدين؛ واستشهد على ذلك بما يبكي ويضحك مما يؤكد وجود رغبة مبيتة في افتعال ما تشوه به صورة الشيخ عند المتدينين ..

9 ومن إطلاقاته الجزافية الحمقاء؛ اتهامه الشيخ العودة بأنه ذم العلماء السائرين على منهج السلف!
واستلزم ذلك من كون الشيخ انتقد بعض ما رآه خطأ أو تقصيرا عند بعض العلماء؛ مع أن نقده كان علميا ومنهجيا.

10 انتقد الشيخ فهد على الشيخ العودة كونه يقتبس من المفكر الدكتور محمد عابد الجابري؛ مع أن هذا الأخير من عمالقة الفكر الإنساني الفلسفي المعاصر؛ وهو مرجع لمن يخالفه ولمن يوافقه من الباحثين على حد سواء؛ والرجل عنده كثير مما ينتفع منه كما أن عليه مؤاخذات وانتقادات كثيرة ..

أما بعد؛ فإنني كتبت هذه الأسطر تنبيها على ضرورة التريث والتأني في النقد في مثل هذه السياقات الملغومة، وخطورة زلة التسرع النقدي الذي يتم توظيفه سياسيا؛ لا سيما إذا أدى إلى انتهاك العرض وتهديد السلامة الجسدية للإنسان؛ فكيف إذا كان ذلك الإنسان عالما جليل القدر رفيع المقام يعبر عن رأيه بلا إلزام ولا عنف؟؟

لقد كتبت هذه السطور للفت الانتباه إلى أحد المداخل التي تفسح الطريق لظلمه وتجاوز الحق والعدل في التعامل معه؛ وإلا فإن القراءة النقدية للكتابين تحتاج إلى وقت أوسع وجهد أكبر؛ وعسى أن تتيسر أسباب ذلك لأنني أرى فيه مصلحة هامة؛ تتمثل في تقريب الهوة الفكرية بين بعض التيارات الإسلامية التي يسارع بعضها إلى النقد المسيَّس الذي يمَكّن الظالم من المظلوم ويسوغ جبروت بعض ذوي السلطة في حق صالحي الأمة؛ ولو أن الجميع تحلوا بأخلاق الإسلام؛ وفي مقدمتها: الرحمة، واتصفوا برحابة الفكر وحسن الفهم والتصور؛ لما وقعوا في هذه الزلة العظيمة التي يُنتهك بها العرض المصون ويُسفك بها الدم الحرام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *