وجهة نظر

هل يعيد التاريخ نفسه حقا ؟

مشهدان لطالما شَخَصا بوضوح في المشهد الشرق أوسطي يلخصان واقعا تعيشه المنطقة وشعوبها منذ امد بعيد، يُذكِّران بواقع يتكرر عبر القرون دون ان تستخلص شعوب المنطقة وقادتها الدروس والعبر، فتتجرع كؤوس المرارة وتقع في ذات الأخطاء والجرائم مرة بعد مرة بشكل يثير الاشمئزاز والحيرة الى أبعد الحدود.. المشهد الأول هو استمرار اغتيال القدس والمسجد الأقصى المبارك جهارا نهارا على ما يمثله من أبعاد دينية ووطنية وقومية، دون أي تحرك لاستنقاذها.. اما الثاني، فهو مشهد استمرار تهافت الأمة العربية والإسلامية وسقوطها الحر بشكل محير، دون أي تحرك جدي لوقف هذا الانهيار ومنع تبعاته الكارثية..

(1)

المسجد الأقصى المبارك قلب مدينة القدس وبوصلتها، الذي كان وما يزال وسيظل إلى الأبد المؤشر الأصح والمسبار الأدق لعافية الأمة أو مرضها، تعرض هذا الأسبوع وبالتحديد الاثنين 14.1.2019 لعدوان إسرائيلي جديد يتكرر تقريبا في كل يوم وإن بأشكال مختلفة.. جريمة من النوع التي احترفت إسرائيل ارتكابها بشكل منهجي أمام سمع وبصر العالم العربي والإسلامي والمجتمع الدولي بأسره.. بدأ العدوان عندما منع حرس المسجد الأقصى متطرفا يهوديا من الدخول الى مسجد قبة الصخرة، وهو دخول مخالف للأنظمة المعمول بها في هذا الشأن.. افتعل المتطرف اليهودي – وهذه هي العادة – إشكالا، مستدعيا الشرطة والامن الإسرائيلي ل “إنقاذه!!” من أيدي “الأشرار!!!” المسلمين!! استجابت الشرطة فورا لنداء المتطرف اليهودي لتبدأ عدوانها على المسلمين دون ان تجري فحصا ولو سطحيا لما حدث، ولو فعلت لتوصلت حتما الى كذب دعوى اليهودي، وأن الحق الكامل مع سدنة المسجد الأقصى وحراسه.. القضية محسومة بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الأمنية والسياسية.. عندما ينشب أي نزاع بين “يهودي” من شيعة الاحتلال و”عربي” من عدوه، فالحق دائما مع اليهودي، ولا مكان للتحقيق والتبين.. الحل في هذه الحالة لا يكون الا ب “البطش!!” بالعدو المشترك لليهودي فردا كان او احتلالا.. لذلك، كان الاعتداء الآثم على المصلين المسلمين وعلى فضيلة الشيخ عمر الكسواني مدير المسجد الأقصى المبارك، وإصابته بجراح نُقل على أثرها لمستشفى المقاصد في المدينة المقدسة لتلقي العلاج، إضافة إلى منع المصلين من الدخول لمسجد الصخرة لأداء صلاة الظهر.. إسرائيل بهمجيتها هذه لا تريد الحفاظ على الأمن والاستقرار داخل الحرم القدسي الشريف، وإنما تريد ان تثبت دائما أن “الحرم” ” يهودي – إسرائيلي – صهيوني!!!!”، وما الوجود العربي والاسلامي فيه إلا “عابر سبيل” سينتهي عندما تحين الفرصة ويتهيأ الظرف المناسب لإزالة كل أثر إسلامي فيه، واستبداله بالهيكل المزعوم..

الاقصى قلب مدينة القدس كان وما زال المرآة التي تعكس حال العرب والمسلمين، فإن كان الأقصى بخير فمدينة القدس بخير، وهكذا حال الامة العربية والإسلامية، والعكس صحيح.. فإنْ تَدَهْوَرَ حال الأقصى والقدس، ووقوعه في قبضة الاحتلال (الصليبي 1099، و – 1917)، أو الصهيوني (1948-1967)، لا بد أنه كان ثمرة مُرَّةً ونتيجة نكدة لتدهور خطير في حال الامة العربية والإسلامية..

(2)

تُشَكِّلُ القضية الفلسطينية عموما وقضية القدس والاقصى المبارك خصوصا، الصدى لواقعِ الحال في الامة العربية والإسلامية، وما الاحتلال الإسرائيلي الا عرض المرض الذي أصابها فأخرجها تقريبا من التاريخ لمصلحة المشروع الصهيو – ألأمريكي – الغربي في المنطقة، والذي تُوِّجَ بإقامة دولة إسرائيل من جهة، وإغراق العالم العربي والإسلامي في مستنقع صراع وضع الغربُ فلسفَتَه بذكاء ودهاء تلخص في:

أولا، تمزيق الوحدة العربية واسقاط الخلافة وإقامة الدويلات المتناحرة.

ثانيا، تسليم السلطة في هذه الدول (إلا من رَحِمَ الله) لأنظمة ولاؤها للغرب وسياساته، وخدمتها للغرب ومصالحة، بينما لا مكان للشعوب ومصالحها، ولا لمصالح الامة الدينية والوطنية، أي وجود في قاموسها.

ضَمِنَ الغربُ بهذا سيطرةَ إسرائيل على المنطقة وبلا منازع، والحفاظَ على مصالحه وامتيازاته في الوطن العربي والإسلامي بلا معارض، وضمِنَ أيضا ألا تقوم قائمة للقوى الحية في أمتنا وبالذات قوى الإحياء والتجديد الإسلامية التي تنادي بالوحدة الفكرية والسياسية والجغرافية على مستوى الأمة، الأمر الذي نجح الغرب في إفشاله حتى الآن عبر سياساته التي ذكرت آنفا..

القاعدة التي ينطلق منها الغرب وفي قلبه الولايات المتحدة الأمريكية تتلخص في ضرورة منع أية نهضة عربية او إسلامية سياسية ومدنية، يمكن ان تعيد للامة مكانتها بين أمم الأرض، وتجعلها منافسة له في ميادين احتكرها لعقود طويلة، إلى درجة أنه لم يعد يسمح بأي تغيير لقواعدها مهما كلفه ذلك من ثمن..

ظهر هذا السلوك واضحا في التآمر الغربي مع أنظمة الاستبداد والدكتاتورية العربية والإسلامية في القضاء على بدايات التغيير نحو نظام عربي جديد يرقى لمستوى طموحات الامة في الوحدة، وإلى أشواقها في التقدم والرقي والتنمية والإنتاج، والذي بدأت تظهر ملامحه في أكثر من بلد عربي نجحت فيها الثورات في إحداث تحولات عميقة لم يكتب لها الاستمرار والتطور بسبب هذا التآمر الذي لعب فيه الغرب دورا مركزيا بات واضحا في مصر وليبيا واليمن وسوريا..

هل يذكرنا هذا الواقع الجديد الذي يعيشه الشرق الاوسط بواقع شبيه بدأ يتشكل نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ليصل غايته مع نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية؟ هل تغير اللاعبون في فصلي المسرحية؟ هل تغيرت السياسات ذات العلاقة مع عالمنا العربي والإسلامي؟ هل تعلم العرب والمسلمون الدروس من تجارب الماضي المُرَّة؟ هذه بعض الأسئلة التي تفرض نفسها ونحن نحاول فهم ما يجري املا في استخلاص العبر من التاريخ القريب والبعيد، وطمعا في الوصول الى طرف الجسر المؤدي الى ميلاد جديد يضع الأمة على بداية طريق النهضة الصحيح..

(3)

المشهد القديم…. اللاعبون المركزيون…

اولا، المستهدف الأكبر: الدولة العثمانية كممثل للامة العربية والإسلامية وموروثها الوحدوي وإنجازها السياسي والحضاري والمدني..

ثانيا، عدو الأمة العربية والإسلامية الأول: بريطانيا وفرنسا كممثلتين للاستعمار الغربي، ووريثتا الممالك الصليبية الأولى اللتان لم تنسيا ثأرهما من الامبراطورية الإسلامية، وسعيتا لإسقاط الخلافة وتمزيق وحدة الامة تحت مختلف اليافطات والشعارات.. تأتي بعدها روسيا التي تشترك مع الغرب في نواياها تجاه العرب والمسلمين، وإن تظل مصالحها ومنافستها للغرب سببا في ان تتبنى مواقف داعمة للحق العربي وإن بعيون روسية لن تبلغ عشر معشار ما يصبو اليه العرب والمسلمون فعلا..

ثالثا، العملاء العرب: (الشريف حسين كنموذج) اللذين وضعوا أنفسهم ومجتمعاتهم ومقدراتهم في خدمة الدول الاستعمارية، ورضوا الوقوف معها والقتال في صفوفها ضد الاخوة في الدين (الخلافة الإسلامية) طمعا في زيف خادع لم يعدو ان يكون طمعا في زعامة مغموسة بدماء الأبرياء، ومقَدَّمَةً على صفيح من خيانة عظمى للدين والأمة، ومحمولة على أسنة رماح أعداء الدين والوطن من دول الاستعمار البغيضة..

رابعا، عراب السياسة الاستعمارية في بلاد العرب: توماس إدوارد لورنس ضابط بريطاني اشتهر بدوره في الترويج للسياسية البريطانية، واقناعه للشريف حسين والكيانات العربية في الشرق الأوسط للقتال الى جانب بريطانيا ضد الدولة العثمانية مقابل وعود بإقامة الدولة العربية الكبرى التي تبين فيما بعد انها لم تكن أكثر من وهم وخداع..

خامسا، اللاعب الأكثر كسبا: الحركة الصهيونية، والتي نجحت في اللعب على جميع الحبال وانتهت إلى إقامة دولة إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني..

سادسا، الخاسر الأكبر: فلسطين خصوصا، والأمة العربية عموما..

المشهد الجديد…. اللاعبون المركزيون…

أولا، المستهدف الأكبر: تركيا في طورها الجديد والذي بدا منذ تسلم حزب العدالة التنمية بزعامة رئيس الجمهورية التركية الحالي رجب طيب أردوغان، والتي تمثل أشواق الأمتين العربية والإسلامية في الوحدة والعزة والكرامة الوطنية.. تأتي بعدها إيران بما تمثله من قوة صاعدة تتحدى الغرب، وإن كان دورها في الشرق والاوسط مثيرا للجدل الى أبعد الحدود.. ومن بعدهما الأمة بأسرها..

ثانيا، عدو الأمة العربية والإسلامية الأول: أمريكا التي ورثت الدول الاستعمارية القديمة بريطانيا وفرنسا، وأصبحت صاحبة القول الفصل في القضايا الدولية مع احتفاظ الدول الأوروبية بهامش ضيق من المناورة يكاد يكون معدوما في قضايا الشرق الأوسط، الامر الذي سيبقي أوروبا على حالها القديم في عدائها للشرق العربي والإسلامي وإن بصورة مختلفة! أمريكا كممثلة للاستعمار الغربي الجديد، ما زالت تسعى دون كثير دهاء خصوصا في ظل حكم الرئيس الأمريكي الحالي ترامب، الى اسقاط الحكومتين في تركيا وإيران، وضرب كل القوى الحية في العالم العربي والإسلامي، ودعم إسرائيل والتغطية على جرائمها ضد الانسانية.. اما روسيا اليوم فتظل مصالحها هي الموجهة لسياساتها، حيث تبتعد وتقترب من الدول العربية والإسلامية بناء على هذه المصالح، لكنها في النهاية لا تختلف في عدائها للامة عن الغرب، وهذا كان حالها مع الدولة العثمانية قديما..

ثالثا، العملاء العرب: (السعودية والامارات والبحرين ومصر وغيرها من الدول العربية والاسلامية كنموذج)، اللذين وضعوا أنفسهم ومجتمعاتهم ومقدراتهم في خدمة أمريكا والغرب وإسرائيل، ورضوا الوقوف معها ودعهما ضد الاخوة في الدين (تركيا وإيران كدول، والاخوان المسلمون وباقي القوى الحية في العالم العربي، وبالذات قوى المقاومة)، طمعا في حمايتها من شعوبها، وضمان بقائها في السلطة الى ما لا نهاية..

رابعا، عراب السياسة الاستعمارية في بلاد العرب: مايكل بومبيو وزير الخارجية الأمريكي الحالي، والذي يشغل بجدارة دور (لورنس) قديما، والذي شغل سابقاً منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، يشرف بنفسه على ترتيب الشأن العربي وتجنيد المزيد من العملاء العرب لتحقيق ثلاثة اهداف معا: الأول، إسقاط تركيا أولا وإيران ثانيا. الثاني، حماية إسرائيل وفتح الباب امامها لتكون عضوا طبيعيا في الشرق الأوسط العربي. الثالث، دعم أنظمة الدكتاتورية والاستبداد في وجه الشعوب الطامحة الى الحرية والاستقلال الحقيقي، بدعوى محاربة الإرهاب..

خامسا، اللاعب الأكثر كسبا: الحركة الصهيونية، تماما كما كانت في المشهد الاول..

سادسا، الخاسر الأكبر: فلسطين خصوصا، والأمة العربية عموما، تماما كما كانت في المشهد الاول..

(4)

الانتصارات التي تحققت في القدس (14.7.2017) حيث كان انتصار اللحم الحي على الفولاذ الإسرائيلي في معركة البوابات الالكترونية ، وفي تركيا (15.7.2016) محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، ومن ثم فشل محاولة الانقلاب الاقتصادي (2018)، واستمرار الشعوب العربية والإسلامية في نضالها للتخلص من الاستبداد والفساد، وصمود الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس المحتلة والداخل، فإنها بقدر ما كشفت عمق التآمر الصهيو – الغربي – العربي، فإنها وضعت الشعوب العربية والإسلامية أمام تحديات جديدة، وامام الحقيقة الوحيدة في انه لا بديل عن إرادة الشعوب وتضحياتها لاختراق الواقع المهلهل الذي تعيشه، والانعتاق من عنق الزجاجة او قاعها التي حشرتها في داخلها انظمةٌ انتهت صلاحيتها تماما، والتي آن الأوان أن تُلقى بعيدا عن منصة الحكم والقيادة..

حتى لا نذهب بعيدا في التحليل، فمجتمعاتنا العربية والاسلامية هنا وفي كل مكان، بحاجة الى إعادة بناءِ منظومتها الأخلاقية والقيمية تأسيسا وتمهيدا لتشييد منظومة سياسية واجتماعية تنقلها من حالة التآكل الدائم إلى حالة من الإنجاز التراكمي الضروري لبناء المستقبل. تغيير واقعنا وتحقيق النصر على عوامل الإعاقة فيه، يقتضي: أولا، ان نعترف ان هنالك مشكلة يجب حلها. ثانيا، تحديد مرتكزات مشروع التغيير الفكرية ومرجعياته واهدافه. ثالثا، تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافه وغاياته. رابعا، انتخاب القيادة القادرة على حمل رايته وتنفيذ برامجه وردع أعدائه. خامسا، انتخاب المؤسسات الرسمية والاهلية القادرة على حمايته من تغول السلطة الحاكمة وضبط حركته وتصحيح ما اعوج في مسيرته. سادسا، تأهيل الظهير الشعبي والسند الجماهيري القادر على التحرك دائما للدفاع عنه، والمستعد للتضحية في سبيله.

* الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *