سياسة، ملف

الفساد بالمغرب.. إخفاق في “مطاردة الساحرات” وانتقاء في المحاسبة

“مطاردة الساحرات”

تُلخص مقولتا “عفا الله عما سلف” لرئيسِ حكومةِ ما بعد “حراك الربيع الديمقراطي” عبد الإله بن كيران، و”استحالة مطاردة الساحرات” للوزير الأول السابق في حكومةِ “التناوب التوافقي” عبد الرحمان اليوسفي مدى العجز الذي يمكن أن يصل إليه بلد ينشد التغيير والتقدم والتنمية وإنهاء الفساد، حين يجد أن الفسادَ أخطبوط تمتد أطرافه إلى السياسة والمال والأعمال وحتى إلى أوصال المجتمع.

وترسم مثل هذه المقولات في المخيال الجمعي للمغاربة أن المملكة غير جادة في الذهاب بعيدا في محاربة الفساد، وفي هذا الصدد يقول الخبير الدولي في الحكامة والمحاسبة ومكافحة الفساد محمد براو إن “الترتيب المتدني للمغرب على مستوى مؤشر الفساد يطرح سؤالا رئيسيا بشأن مدى فعالية ونجاعة السياسات التي تم إتباعها في الماضي، وكذا بشأن جدية الفاعل السياسي في محاربة الفساد في المغرب”.

لكن هناك من يرى في المقابل أن مقولة “استحالة مطاردة الساحرات” مكنت اليوسفي من طمأنة رجال السياسة والأعمال، ومن إطلاق خطة وطنية لتعزيز الشفافية والنزاهة في الإدارة العمومية، استطاع من خلالها المغرب تسجيل أحسن نقطه في سنة 2000، وأن مقولة “عفا الله عما سلف”، مكنت ابن كيران من استرجاع 27.8 مليار درهم في نهاية سنة 2014، بعد تسجيل 19 ألف تصريح في إطار المساهمة الإبرائية.

وبغض النظر عن اختلاف الآراء حول تلك المقولات ومدى مساهمتها فعليا في طمأنة رجال السياسة والمال والأعمال لتوفير بيئة تدريجية وحاضنة شعبية لمكافحة الفساد، إلا أن المتفق حوله هي مبادئ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم الإفلات من العقاب، والشفافية والنزاهة، وهنا يرى براو أنه لا معنى لادعاء تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة بدون ترتيب العواقب السلبية والايجابية.

إرجاع الأموال بدل الحبس

ضرورة استرجاع الأموال المنهوبة والمهربة والمبددة، ليست فقط وجهة نظر يتقاسمها خبراء مكافحة الفساد والنشطاء في مجال حماية المال العام، بل هي مطلب جماعي صدحت به حناجر المغاربة خلال خروجهم في “الربيع الديمقراطي”، وهنا تختلف مقاربات القيام بذلك فيري الاستشاري في مجال القضاء المالي والمنازعات المالية محمد براو أن الإستراتيجية التي اتبعتها الدولة حتى الآن، تتسم بالسير وفق إيقاع بطيء وبكونها تقوم على التحسيس أكثر مما تقوم على الزجر.

ويقترح خالد حجازي، أستاذ زائر بكلية العلوم القانون والاقتصادية بأكدال اعتماد مقاربة الصلح كمحفز لاسترجاع الأموال المنهوبة بدل الزجر، أن الدولة تخسر مرتين في قضية الأموال المنهوبة، فهي تخسر أولا من خلال عدم استرجاع الأموال العمومية، وتخسر ثانيا من خلال تحمل عبء شخص في نهاية المطاف جرمه لا يستحق عقوبة حبسية قد تصل في القانون المغربي إلى عشر سنوات، مطالبا بضرورة السير في اتجاه إجراء صلح مع هؤلاء استنادا إلى التجارب الدولية المقارنة.

وقال الباحث في جرائم المال العام ومكافحة الفساد إن “الدولة تعتمد مقاربة تقليدية تنبني أساسا على العقوبات الحبسية والغرامات المالية، فضلا عن سلطة المحكمة في مصادرة الأموال المتحصلة من الجريمة”، موضحا أن الواقع العملي قد أكد أن هذه المقاربة التقليدية قاصرة ولا تستطيع توفير الحماية المنشودة والفعالة للمال العام، داعيا المغرب إلى انتهاج سياسة جديدة تقوم على مبدأ استرجاع الأموال العمومية قبل الإدانة العقوبات.

لكن الخبير براو أنه لا معنى لادعاء تطبيق “مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة” بدون ترتيب العواقب السلبية والايجابية وذلك من خلال الغرامات وإرجاع الأموال العامة المطابقة للخسارة العزل التأديبي، وكذا في العقوبة المستجدة المتمثلة في الإقصاء من الترشح لمناصب جديدة، وحتى العواقب القصوى السالبة للحرية، مقترحا في المقابل ترتيب عواقب إيجابية من قبيل المكافأة المالية والتصعيد في سلم المسؤولية والاحتفاء والتكريم.

الانتقاء في المحاسبة

عقب صدور كل تقرير للمجلس الأعلى للحسابات، مع ما يحمله من اختلالات وخروقات وتوصيات، يواجه إما باتهامات منها الانتقائية والتسلط على أطراف دون أخرى أو على مؤسسات دون غيرها أو في المقابل عدم بلوغ مداه في المتابعة والعقوبات الزجرية وربط المسؤولية بالمحاسبة. وهما يطفو على ساحة الأحداث سؤال “ماذا بعد صدور تقرير مجلس “جطو”؟” وسؤال “هل سيتم معاقبة المسؤولين على هدر المال العام؟”.

بهذا الصدد يرى برو أن الانزلاقات التي يرصدها تقرير “جطو” تأخذ طابعين، “الأول طابع تأديبي مالي، يتعين على المجلس الأعلى للحسابات أن يتابع المعنيين به في نطاق الاختصاص في ميدان التأديب المالي، الذي ينتج عنه إصدار عقوبات مالية في شكل غرامات”. لكنه يوضح أن المخالفات إذا أدت لخسائر مالية فينص القانون على ضرورة مطالبة المتسببين في تلك الخسائر بإرجاع الأموال المطابقة لها.

وأضاف براو أن “البعد الثاني للانزلاقات هو بعد جنائي في شكل اختلاسات وتبديدات للمال العام، موضحا أن للمجلس في هذه النقطة ينبغي عليه من خلال نيابته العامة إحالة ملفات المعنيين بالأمر للقضاء، أي على النيابة العامة لدى القضاء العدلي، وذلك من أجل اتخاذ ما يلزم من إجراءات، مضيفا أن القانون ينص على أن النيابة العامة ملزمة بإخبار المجلس بمآل الملفات الجنائية التي أحيلت عليه من طرف المجلس”.

ويشرح حجازي لماذا يتابع القضاء شخصا في ملف ويقرر عدم متابعة أخر رغم ورود اسمهما في تقارير المجلس الأعلى للحسابات، بالقول إن “الاعتداء على الأموال العمومية يأخذ صورتين إما الاعتداء على المال العام بسوء تدبير فقط، وهذا لا يقتضي متابعة جنائية، وإما الاعتداء على المال العام بسوء نية، وهذا الأمر يجعلنا أمام متابعات جنائية”.

ويرى براو أن تقارير المجلس الأعلى الحسابات التي يتم نشرها من المفروض أن تكون ذات طابع إداري تنويري وتوجيهي واستشاري تشير إلى مكامن الضعف في حكامة المرافق العمومية وتقترح سبل التصويب والعلاج، مشددا على أنه ينبغي تتبع تنفيذها من طرف الحكومة ووزرائها المعنيين من خلال اتخاذ تدابير تصحيحية تهم الملاحظات المعبر عنها في التقارير، لكنه يرى أنه إذا كانت متضمنة لأخطاء جسيمة في التدبير فينبغي معاقبة المقصرين بعزلهم أو إعفائهم أو تغيير مواقعهم.

ودافع رئيس الحكومة سعد الدين العثماني عن نفسه في مهب الاتهامات التي رميه بالتساهل والتطبيع مع الفساد، بكشفه عن إحالة 115 ملفا من الملفات الواردة في تقارير المجلس الأعلى للحسابات على القضاء، مقرا بالنتائج الوخيمة للفساد الذي قال إنه يفوت على المغرب بناء 150 مستشفى من الطراز العالي، وتشييد أكثر من 300 مدرسة ذات مستوى عال كل سنة، مؤضحا أن طالب بإحالة جميع تقارير المتضمنة للاختلالات على القضاء.

ربط المسؤولية بالعزل

لقد نص الدستور على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، لكن ذلك المبدأ تكرس في الأذهان بصورة معاكسة وهي ربط المسؤولية بالعزل بدل المحاسبة، وقد كان من أقوى المحطات التي كرست ذلك النهج ما أعقب أحداث الريف، التي تسببت في تغييب العشرات من المحتجين خلف أقبية السجون في حين شاهد فيه المغاربة أن الذين كانوا السبب في الاحتقان الاجتماعي الذي شهدته المنطقة يصولون ويجولون بعد عزلهم.

لقد قام الملك محمد السادس بعزل بعض الوزراء وكبار المسؤولين بوزارة الداخلية على خلفية اختلالات برنامج “الحسيمة منارة المتوسط”، علاوة على حرمان بعضهم من حق تقليد أي مسؤولية في المستقبل، وذلك بناء على التقرير الذي رفعه رئيس المجلس الأعلى للحسابات إدريس جطو، وقد أدى ما سمي آنذاك بـ”الزلزال السياسي” وإعفاء محمد بوسعيد إلى جدل وسط المجتمع بين مرحب بالعزل والإقصاء من المسؤوليات المستقبلية كآلية لمحاربة الفساد، وبين مطالب بالمحاسبة التي يمكن أن تبلغ حد الزجر والسجن.

وقد انتقدت الجمعية المغربية لحماية المال العام هذا النهج معتبرة أن هناك “غيابا لإرادة سياسية حقيقية للتصدي للفساد والرشوة والإفلات من العقاب”، مستدلة بأنه يتم عزل المسؤول في بعض الأحيان دون إحالته على المحكمة، مع العلم أن بعض الوقائع المسجلة في التقارير تكتسي صبغة جنائية، منتقدة بقاء تلك التقارير على رفوف المجلس الأعلى للحسابات أو رفوف النيابة العامة.

الفساد وحدود السياسات

وقد يخرج كل متتبع لقضية مكافحة الفساد في المغرب بالخلاصة التي توصل إليها الخبير براو في دراسة حول “حدود سياسات مكافحة الفساد بالمغرب”، من أن “سياسات مكافحة الفساد فشلت بسبب عدم القدرة على تحويل التعهدات إلى برامج ناجعة، وبطء تفعيل مؤسسات الحكامة، ومحدودية الموارد والقدرات”.

وقد يلاحظ المتتبع في معادلة تتسلسل منطقيا أن المغرب لا يذهب بعيدا في المحاسبة، وإذا صادف أن قام بالمحاسبة لا يدقق في الاختلالات بشكل يوصل إلى المسؤول الكبير، وإذا قام بذلك كان بشكل انتقائي، وإن حاسب كانت نهاية ذلك العزل وعدم المتابعة، وهي كلها أمور تجعل حماة المال العام يتهمون الدولة بالافتقار إلى “الإرادة” لمكافحة الفساد، علاوة على تشجيع “الإفلات من العقاب” وعدم تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

اترك رداً على غير معروف إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    الفساد بالمفهوم العام.مستشري في العالم.فاين ما وجد الانسان والا الفساد رفيقه.لان العالم اليوم اصبح اصغر مما يكون.واخبار الفساد والفسدين اصبحت في متناول الجميع.دول العالم كلها مملوءة بالفساد.فلاداع للكذب بان يتهم المغرب انه في التدني......الخ.