وجهة نظر

“كليات رمضانية”.. الحلقة الرابعة: رمضان والتغيير الشامل المثمر

كلية التغير والتغيير:


بعد أن تجولنا وسط أجواء التغيير الرمضانية، والقابلية لذلك التغيير، نختم حلقات كلية التغيير بتأمل شمولية ذلك التغيير وقطف ثماره اليانعة الممهدة للتحرر والتحرير..

تساؤل: لماذا كان للصيام ذلك الجزاء الخاص دون غيره من العبادات؟

قال الشيخ محمد رشيد رضا: لكل طاعة من الطاعات لذة يجدها مَن أقام تلك الطاعة فللصلاة من لذة المناجاة لله تعالى ما ليس لغيرها، ووالله إن البكاء فيها لهو ألذ عند الخاشعين من الضحك في سواها، فيا حسرةً على مَن حُرم منها، وللزكاة لذة التفضل وعزة الغنى والسيادة، ولمناسك الحج عمل في تحريك الشعور الديني، والتوجه إلى العالم الروحاني، يشترك فيه الجاهل بأسراره مع العالم بها؛

ولذلك ترى العوام ينجذبون إليه كالخواص، ولا يوجد مسلم إلا وهو يحن إلى تلك المعاهد حنين الطير إلى أوكارها، وهذه اللذة مطَّردة فيما عدا الأركان من أعمال البر إلا الصوم فإنه ترك لا لذة ولا حظ للنفس فيه لأنه أمر عدمي وأثره الوجودي هو الألم، فهو جدير بأن يتولى الله تعالى مثوبة صاحبه بترقية نفسه في الكمال والتهذيب حتى يلقاه بقلب سليم، ويستحق جنات النعيم… [1]

إذن فالتغيير والقابلية له وأجواؤه في هذا الشهر الكريم متاحة وجاذبة من كل جانب:

من جانب طول فرصته ومدته وتتابعها طيلة ثلاثين يوما.

وهو تغيير يتناول الإنسان في أعماقه وباطنه وداخله تغيرا في إخلاصه وإيمانه ، ودوافع سلوكه، كما أنه كذلك تغير في الظاهر بأعماله وجوارحه ..

وهو أيضا تغيير لا يقتصر على الفرد نفسه أو عليه وحده ! بل هو يعم الأمة كلها فليس المتغير أو المغير منفرداً يشعر بوحشة أو غربة ، بل كل الأمة في مجموعها تعلن تغييرها امتثالا لأمر ربها ، بل وتبدل نظام حياتها كله استجابة لهذه الفريضة والشريعة .

وهو تغيير متسق وشامل ؛ لكل مناحي الحياة من طعام وشراب ومنام وفكر وقلب وسلوك وعلاقات.

وعند سدة التتويج، ومنصة الفوز يشعر ذلك السائر في طريق التغيير بحلاوة الإنجاز، ويرمي وراء ظهره كل تلك المعاناة، ومخلفات ذلك المسير، منتشيا بنشوة النصر، ومتذوقا لذة الهداية والهدى المزكاة برائحة أطيب من المسك، ومكبرا ومهللا { ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}

قال سيد رحمه الله: فهذه غاية من غايات الفريضة، أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام، أكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها.

وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبه إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث: ((لعلكم تتقون))

وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير” [2]

فيا من وفى في رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال، يا من رأي العيد ووصل إليه، متى تشكر المنعم وتثنى عليه، فكم من صحيح هيأ طيب عيده صار ذلك الطيب في تلحيده.

يا من يصلح في رمضان وعزمه على الزلل في شوال أفسدت رمضان، ويحك! رب الشهرين واحد. [3]

هذه القابلية للتغير والتغيير وتلك الأجواء المعينة والمشجعة عليه، تدعونا إلى طرق باب كلية أخرى هي أول معالم ذلك التغير والتغيير، إنها كلية التحرر والحرية..

(آخر حلقات كلية التغير والتغيير، ومنها ننطلق إلى حلقات كلية التحرر والتحرير)

يتبع..

[1] مجلة المنار (6/655)
[2] في ظلال القرآن: (2/172)
[3] التبصرة لابن الجوزي (2/114)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *