وجهة نظر

عندما يموت العظماء واقفين

عاش الانقلابي الدموي المدعو عبدالفتاح السيسي مغتصب الحكم في مصر الكنانة، ذليلا طوال حياته.. لم يسمع به أحد بعد ان تربَّى في أقبية جهاز المخابرات الامريكية (سي آي أي) لعقود من الزمن ابتداء من العام 1977 وهو العام الذي شَكَّلَ بداية مرحلة جديدة بدأت تهب فيها رياح سموم لثقافة جديدة هيأت لتغييرات جذرية ابتدأت ببواكير تحركات سياسية في اتجاه المصالحة مع إسرائيل، الأمر الذي استدعى عملية أخرى ضرورة لتحقيق الهدف الاستراتيجي الأول، وهي تغيير عقيدة الجيش المصري وجيوش دول أخرى بدأت طريق التطبيع مع إسرائيل، والتي في صلبها توجيه بوصلة الجيش من مواجهة العدو الخارجي الذي أصبح صديقا، إلى العدو الداخلي الذي كان وما يزال عدوا وهو الشعب .. تربى السيسي على عين تلك الاجهزة لما رأت فيه الرجل “حصان طرواده” الذي سينتظر دوره ليقود أخطر تحول في تاريخ مصر الحديث، وسيصنع مرحلة فارقة في تاريخ انحطاط العالم العربي والإسلامي بعد ان انبعث من جديد في ظل ثورات الربيع العربي التي فتحت بابا من الأمل امام شعوبٍ طحنتها الدكتاتورية وحطمها الاستبداد منذ بداية مرحلة الاستقلال وحتى الآن..

رضع السيسي لبن الخيانة والعمالة في مرحلة مبكرة من حياته قضاها في رعاية “الشيطان” الأمريكي الوارث “الشرعي” لتاريخ طويل من الحقد والكراهية لكل ما هو عربي وإسلامي، والمكلف من الصهيونية والماسونية العالمية بتنفيذ خططها الرامية إلى تمزيق العالم العربي والإسلامي وإبقاءه ضعيفا إلى حد الموت..

وجدت أمريكا وأوروبا وإسرائيل وشراذم العرب ضالتهم في السيسي الذي تدرج سريعا في سلم الترقيات العسكرية بشكل لافت رغم رسوبه في الدراسة في المدارس العادية، والتحاقه ب “الواسطة” بالمدرسة الثانوية الجوية عام 1970، وحتى تسلمه منصب مدير المخابرات العسكرية والاستطلاع في الفترة ما بين كانون ثاني 2010 وحتى آب 2012، مرورا بالتحاقه المشبوه بكلية الحرب العليا الأمريكية ( US Army War College ) عام 2006.

تكشف دوره الخبيث أثناء ثورة 25 كانون ثاني/يناير 2011 ضد حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، حيث أدار منذ ذلك الوقت وربما قبله بكثير حرب الخداع الاستراتيجي بهدف الوصول الى “غايته” التي رسمها له أسياده في تل أبيب وواشنطن، والتي وصلت ذروتها في الانقلاب الدموي الذي قاده عبدالفتاح السيسي ضد الدكتور محمد مرسي الرئيس المدني الأول المنتخب ديموقراطيا في تاريخ مصر الحديث وذلك يوم 3.7.2013، بعد عام من انتخاب الرئيس مرسي..

كشف القيادي في الاخوان المسلمين وثورة 25 يناير وميدان التحرير في لقاء له من فضائية (دريم 2 ) المصرية بتاريخ 10 تموز 2012، والمعتقل في سجون الانقلاب منذ العام 2013 والمحكوم عليه بالإعدام في أكثر من ملف ملفق لا علاقة له بالواقع، كشف عن تفاصيل لقاء له مع الضابط/اللواء في المخابرات العسكرية عبدالفتاح السيسي بطلب من الأخير الذي وصل ميدان التحرير وطلب اللقاء به شخصيا، والذي سلط الضوء على دور المخابرات العسكرية والعامة والأجهزة الأمنية المصرية الأخرى في قتل المتظاهرين وتجنيد جيش من البلطجية والقتلة و”المسجلين خطر” لتنفيذ مهماتهم القذرة ضد الثوار والشعب المصري، والسعي للوقيعة بين اطياف الشعب نفسه وخصوصا الثوار، في محاولة لحرف بوصلة الثورة عن أهدافها تحقيقا لمخطط العسكر السري الذي ثبت فيما بعد ان عبدالفتاح السيسي كان احد أركانه الرئيسية، وواحد من قياداته البارزين..

في جلسة المحكمة الأخيرة الاثنين الماضي السابع عشر من حزيران الجاري، والتي اجهز الانقلاب العسكري أثناءها على الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي، أثيرت كثير من التساؤلات حول ما قاله الرئيس الشهيد خلال خطابة الذي استمر كما قيل لخمس عشرة دقيقه رفع القاضي الجلسة مقاطعا الرئيس بعدما رفض طلبه عقد جلسة سرية بحضور قائد الانقلاب من اجل الكشف عن (حقيبة سرية) تحتوي موادا وبيانات ومستندات تثبت خيانة السيسي وتواطؤه في قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير وما بعدها من جهة، وتثبت براءته وبراءة الاخوان المسلمين وكل المعتقلين السياسيين من كل التيارات، من كل ما ألصق بهم من تهم باطلة وزائفة.. كان لا بد عندها من تحرك سريع صدرت الأوامر بصدده من ديوان رئيس الجمهورية لتغييب الرئيس مرسي نهائيا عن المشهد..

مهما قيل في تفاصيل ما وقع صحة ودقة من عدمه، فمما لا شك فيه ان الانقلابي السيسي مارس دورا خبيثا انتهى بالقضاء على مخرجات ثورة 25 يناير، والتأسيس لمرحلة من الدكتاتورية العمياء الأكثر دموية وفسادا ووحشية مما سبقتها منذ ثورة 23 يوليو 1952 وحتى اليوم.

كان العالم في انتظار خروج الرئيس الشرعي الدكتور مرسي من سجنه ومعه عشرات آلاف الاسرى السياسيين، محمولين على اكتاف الثوار بعد هزيمة الانقلاب العسكري، لتحقيق هدفين اثنين أساسيين. الأول، استئناف عملية البناء السياسي والحضاري والمدني لمصر الحديثة تحقيقا لأهداف ثورة يناير. والثاني، الكشف عن الحقائق الدامغة حول حقيقية ما جرى منذ تنحي مبارك وتسلم الرئيس مرسي سلطاته الدستورية رئيسا منتخبا لجمهورية مصر العربية، مرورا بملابسات تعيين السيسي وزيرا للدفاع وممارساته التي شعر الرئيس من خلالها أن وزيره لا علاقة له بالثورة ولا بأهدافها، وأن له أجندة خيانية وعلاقات مشبوهة مع جهات خارجية في تل ابيب وواشنطن وعواصم أوروبية..

هذا المشهد يفرض أسئلة محيرة يبدو لي اننا لن نصل إلى إجابات مفصلة ودقيقة حولها بعد ان نفذ الانقلاب قراره بإعدام الرئيس مرسي إخفاء لآثار جريمته في خيانة مصر وثورة الشعب المصري.. أول هذه الأسئلة: كيف نجح السيسي في اقناع الرئيس مرسي بجدارته في منصب وزير دفاع مصر؟! هل كان هذا الخداع والمكر السيساوي مُحكما الى درجة ان الرئيس مرسي أكل (الطُعْمَ) فاتحا بذلك الباب على مصراعيه للسيسي لتنفيذ المرحلة الأخيرة من خطة الخداع الاستراتيجي؟ أم ان المسألة كانت بالنسبة للرئيس مرسي مسألة (عض أصابع) أراد من خلالها الكشف عن خبايا المؤسسة العسكرية، والوقوف على أسرارها تمهيدا لتحويلها الى مؤسسة خاضعة للسلطة التنفيذية كما هو الحال في كل انحاء العالم المتحضر؟ هل اكتشف السيسي (أو احسَّ) ان الرئيس مرسي يرسم خطة للايقاع به وبعصابته، فاستعجل الانقلاب بخطوات جعلت من انقلابه الدموي كانه استجابة لدعوة شعبية خرجت بتاريخ 30.6.2013؟!

استخلصت هذه الأسئلة وغيرها مما لا يتسع المجال لطرحه هنا من احداث ووقائع كاملة، وسأكتفي بمجموعة من الاحداث وقعت تباعا من أهمها: مقتل الجنود المصريين على الحدود مع قطاع غزة في رمضان من العام 2012، واختطاف جنود آخرين على يد مجموعات مسلحة في أيار 2013، رفض السيسي اوامر رئاسية بتحريك قطاعات عسكرية لمواجهة الموقف، ورفض الجيش والشرطة أوامر رئاسية بفرض حالة منع التجول في مدن مصرية، وتواطؤ الشرطة وعدم قيامها بواجبها في مواجهة البلطجية الذي عاثوا في شوارع مصر الفساد تدميرا وقتلا وارهابا واعتداء على الآمنين حتى وصل الأمر حد الاعتداء على قصر الاتحادية كما نذكر، وتعمد اطلاق الشرطة النار والخرطوش على المسالمين من المتظاهرين وتجاهل حملة السلاح والعابثين في الأمن العام والمعتدين على الأملاك العامة والخاصة، ووقوف الجيش والشرطة مكتوفي الايدي أمام اعتداء البلطجية على الرئيس مرسي وموكبه عند وصوله للمشاركة في جنازة الجنود السبعة المغدورين، وتواطؤ الشرطة والجيش مع قطعان البلطجية الذي قطعوا الطرق واغلقوا المؤسسات، وعطلوا الخدمات الوزارية والمحلية، وعبثوا في اهم المرافق الاقتصادية ذات الصلة بحياة الناس اليومية كمحطات الوقود وتوزيع التموين والكهرباء، وغيرها وغيرها وغيرها من الأحداث والتطورات التي دلت كلها على ضلوع الجيش والشرطة والمخابرات والدولة العميقة في تنفيذ مخطط لإسقاط دولة الثورة الحديثة وإفشالها..

لاحظنا في حينه ان اكثر ما أحزن الرئيس مرسي انخراط قوى ثورية وليبرالية (جبهة الإنقاذ الوطني كنموذج) في الاحداث، كان من المفروض ان تقف مع الثورة ومخرجاتها الديموقراطية، إلا ان هذه القوى والكثير من الشخصيات المحسوبة على الثورة، فضلت ان تكون في صف المعتدين عليها والمتطاولين على إنجازاتها الثورية، فساهمت بشكل مباشر مهما كانت نواياها حسنة، في تأزيم الوضع العام في مصر مما مهد الطريق للعسكر والقوى الخفية من تنفيذ مخططها الخبيث مستغله حالة الفوضى التي سادت مصر ب “فضل” البلطجية المأجورين من العسكر والدولة العميقة، والليبراليين “الثوريين” الذي اعمتهم الأحقاد القديمة على الإسلاميين الذي فازوا في اكثر الجولات الانتخابية وعلى رأسها رئاسة الجمهورية، فكانوا الليبراليون هؤلاء أشد خطرا من البلطجية المارقين!

مضى الرئيس الشهيد دكتور محمد مرسي الى الله قتيلا شهيدا بيد الطغمة العسكرية المغتصبة للحكم في مصر الحبيبة.. خرج من السجن الى رحاب الله الواسعة بعد سبع سنوات عجاف في سجون السيسي التي لقي فيها كل أنواع العذاب والتنكيل الجسدي والنفسي، وتعرض خلالها لكل صنوف الحصار في الغذاء والدواء وحقه في استنشاق النقي من الهواء.. قتله السيسي وعصابته تدريجيا حتى فاضت روحه الى بارئها تشكو ظلم المجرمين، وشماتة الحاقدين، وتخلي الاقربين، ونفاق الابعدين، وصمت دول العالمين..

لم يتعامل معه الانقلاب المجرم كسياسي له مكانته واحترامه كما تعامل مع الرئيس المخلوع مبارك، وإنما تعامل معه كعدو وكخصم سياسي بشكل خالف فيه كل الأعراف والتقاليد المعمول بها في كل الدول التي ما زال فيها بقية من حياء واحترام لإنسانيتها.. لم تنظم له جنازة عسكرية كما يليق برئيس جمهورية سابق هو الرئيس المدني الأول في تاريخ مصر الذي ينتخب ديموقراطيا بشكل شهد العالم بذلك.. لم يُدفن بالطريق التي تليق بالرؤساء، ولم تنفذ حتى وصيته بأن يدفن في مسقط رأسه قرية العدوة في محافظة الشرقية.. لم يسمح الانقلاب بتنظيم جنازة يشارك فيها الشعب والمحبون والمؤيدون والمعارضون، والرؤساء وزعماء دول العالم.. لم يسمح الانقلاب بذلك كله وغيرها.. ذهب في التنكيل به ميتا بعد نكل به رئيسا وسجينا، إذ لم يسمح الا بمشاركة عدد أقل من أصابع اليد الواحدة من أهله في جنازته ودفنه في مقابر المرشدين العامين للإخوان المسلمين..

ظاهرا، ذهب الرئيس مرسي وبقي الانقلابي المجرم السيسي! لكن السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي ذهب فعلا ومن الذي بقي؟ هل هو السيسي الذي تلعنه الملايين من الاحرار حول العالم، ام هو الرئيس مرسي الذي تمجده المليارات من البشر حول العالم؟! من الذي سيخلده التاريخ كواحد من العمالقة والعظماء، ومن الذي سيخلده كواحد من الاقزام الخبثاء؟ ما من شك في ان التاريخ سيذكر الرئيس مرسي كواحد من العمالقة والعظماء الذين ثبتوا على الحق الذي آمنوا به.. لم يساوموا، ولم يشتروا بمبادئهم عرضا من الدنيا زائف قليل.. لم يحنوا رؤوسهم للباطل ولا للطغيان ولا للوحشية واللاإنسانية.. ظلوا شامخين يصدحون بالحق أمام كل سلاطين الأرض الجائرين.. لم يعطوا الدنية لا في دينهم ولا في شرعيتهم ولا في كرامتهم وشرفهم.. مضوا وافقين بينما سيمضي غيرهم زاحفين!

وأخيرا، ماذا سيستفيد ثوار يناير في مصر والثوار في كل مكان من أسطورة الرئيس الراحل محمد مرسي؟ هل سيكون رحيله الشرارة التي ستوحد الصفوف وتفجر البركان وتعصف بالانقلاب والطغيان؟!

أخذ الدكتور مرسي مكانه في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. فاز بها ورب الكعبة في الخالدين…

فماذا سيكون حال شعوبنا ونخبنا بعده؟ سؤال سيظل ينتظر الجواب، وأرجو ألا يطول الانتظار!

* الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *