وجهة نظر

ما بعد فعل المقاطعة! عن السياسة نتحدث

اعلم حفظك الله، أن فعل المقاطعة ليس حديث عهد بسلوك الإنسان بشكل عام، وقد سبق أن التجأ إليه غيرنا في العهود الماضية، سواء تعلق الأمر بما هو عام (السياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات) أو خاص؛ حيث بلغنا أن بعض العلماء والزعماء اتخذوا من فعل المقاطعة أسلوبا للضغط على أصحاب القرار، كما التجأ إليه بعض الآباء أو الصالحين لتعديل سلوك فرد منهم، وهكذا كان ولا يسمح المقام للتفصيل أكثر. لكن الناظر السوي قبل اتخاذ قرار المقاطعة يحاول الإجابة عن أسئلة مهمة تتعلق بالخطوة المتخذة، ويكون ذلك بتحديد الكيفية الممارس بها فعل المقاطعة، والزمان المحدد أو الممكن التنبؤ به سواء تاريخ البدء أو الانتهاء، وأخيرا ما الإجراء الممكن سلكه ما بعد فعل المقاطعة سواء توج بالنجاح أو الفشل.

لقد سبق القول بأن فعل المقاطعة سُلك من طرف من كان قبلنا أو من عاصرنا، ولا شك أن النجاح كان حليفهم لاعتقادنا صواب سلك نفس السبيل وتقليدهم بدل اتباعهم (لاشك أن التقليد والاتباع سلوكان مختلفان بل متناقضين بعض الأحيان). بيد أننا لم نسمح لأنفسنا بدراسة الأحوال والظروف التي تزامنت مع قرارهم ودرجة تأثر المقاطَع وتأثير المقاطِع قديما وحديثا، لكي يكون لقرارنا السند الواقعي والتنظيري لنجاحه. وهذه الخطوة تبقى ذا أولوية في الدراسة والقيام بها، لأنها الأمر الوحيد الذي يُمَكننا من معرفة كيفية تنفيذ فعل المقاطعة إن اقتنعنا به، بل لا يمكن الاستغناء عنها لتحديد المدة أو الظرف المناسب لذلك، كما ستساعدنا في التنبؤ؛ سواء فشل فعل المقاطعة أو نجح؛ ما بعد فعل المقاطعة.

لذا، ان قمنا بنظرة خاطفة للمقاطعة التي شهدتها بلادنا؛ سواء التي كانت على المستوى السياسي أو الاقتصادي؛ لا يمكن القول إلا بنجاح فعل المقاطعة مع تسجيل أسفنا لعدم قدرتها على تحقيق الهدف المنشود؛ وهنا لابد لنا الفصل بين نجاح فعل المقاطعة ونجاحنا في تحقيق هدف المقاطعة، لأن الاغترار الذي أصاب غالبية المقاطعين تأسس على معدل نجاح فعل المقاطعة فقط وإغفال الآثار المترتبة عنه. وكل هذا يجعل المرء يطيل النظر والتأمل لاكتشاف مكامن الخلل والنقص الذي اعترى هذا الفعل النضالي والفعّال حسب ما قررنا أعلاه. لنطرح تساؤلات جدية حول الكيفية المتخذة في جميع المحطات وأيضا المدة التي استغرقتها فترة المقاطعة حتى إن خلص الأمر بنا إلى غير ما نتمنى، استطعنا التفكير في المرحلة المقبلة والاستعداد لها بشكل أقل ارتكابا للأخطاء وإغفالا للواقع بما يحمله من إكراهات ورهانات.

لعل القيام بالدراسة المشار إليها في الفقرة الثانية، لن تجدي نفعا إلا إذا اصطحبت بمحاولة التفكير في إيجاد حلول للأزمات السياسية أو الاقتصادية، حيث نجاح المقاطعة مرهون بتقديم البدائل، وإلا جاز الحكم على تصرفاتنا بالفشل والعدمية. بل كيف سنقنع الأطراف بمختلف مشاربهم بجدوى المقاطعة إن اقتصرنا على الفعل وحده! وهذه الحالة تتكرر معنا كل مرة لاسيما في فترة الانتخابات التشريعية أو المحلية.

لكن للأسف الشديد، بعد كل ولاية انتخابية نلحظ ازدياد عدد المقاطعين مع ازدياد تمكن أهل الفساد والظلم بمراكز القرار وأهل الجهل وانعدام الكفاءة في أفضل الأحوال، ليصبح فعل المقاطعة أحد خدام أهل الفساد والظلم عكس ما تم الترويج له، وهذا عائد بالأساس إلى سوء التقديرات المعتمدة في تحليل المشهد السياسي. ليكون التفكير في ما بعد المقاطعة فعل مستعجلا، حتى نهتدي إلى إعادة النظر واستخراج الحل الأنسب.

إن امتلاك معشر المناصرين لفعل المقاطعة الجرأة اللازمة للدعوة لموقفهم ومناصرته، هل سيصحبه الجرأة أيضا في إمكانية الحديث عن نتائجها بكل موضوعية وما البدائل المطروحة للتطبيق؟ بل يمكن السماح الذهاب بخيالنا إلى إمكانية تنازل المقاطَعين (أصحاب القرار السياسي) ومطالبتهم للمقاطِعين إشراكهم أو منحهم الفرصة لمسك زمام الأمور، فهل حينئذ سيتمكن أهل فعل المقاطعة من تجاوز كل الأزمات وإيجاد الحلول وتنزيل محتوى الشعارات التي ترفع هنا وهناك، أم سيكون التهرب من المسؤولية بحجة ضعف المسؤولين والتخلص منها وتوريط الجميع بعد فشلهم؟ هل فكرنا يوما في الإكراهات الممكن مواجهتها إن سمحت الفرصة تعويض أصحاب القرار؟ أم أننا نحسن اللعب بالمصطلحات والشعارات الرنانة كمن سبقنا ونكتفي بالبطولة الكلامية؟ حيث نعلم جميعا أن صعود الجبال أمرها يختلف بين من يقدم فعلا على الصعود ومن يكتفي بالتفرج والمشاهدة، لأن ما يبدو سهل التجاوز في أعين المتفرج والمشاهد هو نفسه ما يعيق تقدم المتسلق للجبل.

ختاما نقول: بناء على ما تقدم من الحديث معنا، لا يمكن الخروج إلا بنتيجة وحيدة يمليها علينا الواجب الأخلاقي وهي المشاركة في تدبير الشأن العام مصداقا للحديث الشريف” من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”،سواء بتقديم البدائل أو مناصرة المشاريع المقدمة من طرف الآخر والعمل على تنقيحها. حيث أن الركون إلى فعل المقاطعة مع تقديم النصائح أو التحليلات أشبه بكثير وضعأصحاب الأبراج العالية المحسنين الحديث عن الزهد والإيثار. وأن محاولة تفعيل القاعدة الفقهية ” ارتكاب أخف الضررين”أنسب حل لمن لم يقتنع منابعد بالمشاركة لظنه أن المشاركة مفسدة، لأن المفسدة كما سبق القول واقعة سواء شاركنا أم قاطعنا، ولعل في المشاركة فرصة لتفعيل سنة التدافع حتى يتم الحد من انتشار الفساد والظلم. وما حالنا بخفي حتى نتساءل عن مدى تأثير فعل المقاطعة في قرارات أصحاب القرار لاسيما التي تهم المجال السياسي والاجتماعي والثقافي …. الخ، بل يمكن الجزم أن عنادهم؛ بعض الأحيان؛ يؤكد عدم انتباههم لأفعال المقاطعين، وأن اصرارنا على المقاطعة كل مرة يمنحهم الفرص أكثر للتصرف بالشكل المريح، ويساعدهم على توجيه السياسة والرأي العام من حيث لا ندري، لنكون منفذين لخططهم بدون الانتباه إلى ذلك.وهذا كله يجعلنا نخلص للقول أن منهج التدافع والتفكير في إيجاد البدائل فرض عين، وأن عهد البطولة الكلامية والتنظير من موقع اللامسؤولية وجب هجرانه خصوصا بعد تكرار فشلأصحاب التنظير والحديث العاطفي في تدبير أبسط الأزمات؛ بل لا يحسنون حتى تدبير أمورهم الخاصة وفق ما ينظرون له للعمل به في المجال السياسي والاجتماعي.

اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

* باحث في القانون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *