الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية”1: نعم.. التغذية موضوع للعلوم الاجتماعية أيضا

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، تتناول مواضيع ترتبط بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والثراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنتربولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثربولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”.

التغذية كموضوع للعلوم الاجتماعية

ارتأينا في البداية ضرورة تحديد الحقل المعرفي الذي تنتمي إليه مقاربتنا، إذ تضاعف لدينا الاعتقاد بأن تعيين انتماء بحثنا إلى الحقل الأنثروبولوجي فحسب، وإن كان ينم عن الخصوصيات العلمية لبحثنا، يظل بعيدا عن أن يكون موسوما بالدقة والعمق اللازمين.

لقد قادتنا البحوث البيبليوغرافية التي قمنا بها، إلى سبر طبيعة الفرع المعرفي الذي نزمع أن يتطور فيه السؤال الأساسي في البحث، ويتعلق الأمر بذلك الفرع المعرفي المنتمي إلى حقل الأنثربولوجيا تحت اسم: أنثربولوجيا التغذية.

تكمن خصوصية أنثروبولوجيا التغذية في أن موضوعها يقع في دائرة التقاطع بين البيولوجيا والثقافة، كما تهتم بمجموع الأنشطة المرتبطة بتحويل و توزيع واستهلاك الأطعمة والأشربة، فضلا عن الممارسات والتمثلات سواء المصاحبة لهذه الأنشطة أو الناتجة عنها، كما تبدو أنتربولوجيا التغذية وكأنها تتبنى تطبيقا متأخرا لما ذهب إليه مارسيل موس عندما اعتبر التغذية فعلا اجتماعيا يجب أن تخول دراسته مقاربة المجتمع برمته.

وفي ما يلي نرصد كرنولوجيا تناول الأنثربولوجيا ومعها العلوم الاجتماعية لموضوع الغذاء:

 أهمية الدراسات الأنثربولوجية 

لم تظهر أنثربولوجيا التغذية إلا تدريجيا نتيجة مجموعة من المحاولات، فقد ركزت الدراسات التي انصبت على التغذية في القرن التاسع عشر على المظاهر الطقوسية والفوق طبيعية، حيث  تم التطرق إلى مواضيع من قبيل القرابين والطابوهات. غير أن الباحثين في القرن العشرين بدؤوا بالاهتمام بتعقد الممارسات الغذائية من خلال  قواعدها ودلالاتها، وفي هذا الإطار سنجد كيف سيلقي الوظيفيون الضوء على الدور والوظيفة الاجتماعية للأغذية.

تناول التيار الوظيفي لموضوع التغذية

يرى بعض الباحثين أن التيار الوظيفي، في تناوله لموضوع التغذية،  عمل على تقريب وجهات النظر بين السوسيولوجيا وعلوم التغذية. ويبدو هذا التقارب  على الخصوص في  المساهمة التي قدمها كل من يودكين Youdckin  وماكنزي Mckenzie   حينما أكدا على وجود علاقة بين الطعام الذي نستسيغ مذاقه وبين الطعام الجيد من حيث القيمة الغذائية.

سوف يساهم أب الأنثربولوجيا البريطانية  رادكليف براون (Radcliffe Brow) في إعادة الاعتبار للتغذية كرافد من روافد الاندماج الاجتماعي. في هذا الباب، سوف يعيد النظر في الدراسة التي قدمها دوركايم حول الطوطم معتبرا أن هذا الأخير انطلق من كون العشيرة تمثل المجتمع، وبالتالي فالطقوس الطوطمية التي تقوم بها تسير في اتجاه الحفاظ على تضامن ولحمة المجتمع. لقد عمد براون إلى التركيز على الأفراد كعناصر مكونة للعشيرة وفاعلة في ضمان وحدتها من خلال الطقوس الطوطمية التي تنصب، من بين ما تنصب عليه، على حماية بعض  الموارد الغذائية.

 وقد سار مالنوفسكي في ذات الاتجاه عندما أكد على طقوسية العلاقة بين الإنسان والطبيعة، من خلال الشعائر التي تقوم بها القبيلة من أجل مراقبة وحماية الأنواع الغذائية، حيث سيؤكد ليفي ستروس Levi Strauss)  (على أنه “بالنسبة لبراون ومالنوفسكي، لا يتحول حيوان إلى كائن طوطمي إلا عندما يكون صالحا للأكل” .

بيد أن مارسيل موس (Marcel Mauss) سلك نفس المنهج لمقاربة الظاهرة الغذائية، وذلك من خلال دراسة تبادل الهبات الغذائية لدى قبائل البولتاش بالهند  في كتابه الشهير حول الهبة. لقد أكد أن موضوع تبادل الهبات في المجتمعات البدائية ظاهرة كلية لها مجموعة من المظاهر الدينية الاقتصادية والاجتماعية، غير أن هذا الفعل  وإن كان يعبر في الظاهر عن نوع من النفاق الاجتماعي، فهو في العمق ينم عن نوع من الإكراه يحكمه تعاقد واتفاق مضمر يرمي إلى تحقيق أهداف اقتصادية.   

تناول البنيويين لموضوع التغذية 

يرى بعض الباحثين أن أهم طرح جاء به التيار البنيوي بخصوص موضوع التغذية هو كونه أكد أن الذوق يتشكل ثقافيا لكنه يراقب اجتماعيا. كما أن البنيويين تميزوا في كون اهتمامهم انصب  أكثر على المطبخ في حين اهتم الوظيفيون بالغذاء.

إذا كنا سنركز على مساهمة  ليفي ستروس باعتباره أب البنيوية، فإننا نقر منذ البداية أنه  لا يمكن بأي حال فهم طرح ستروس بخصوص العادات الغذائية من خلال الاقتصار على الإطلاع على كتابيه الهامين في هذا الباب: النيئ والمطبوخ، ثم أصل طرق تحضير المائدة.

سيحاول ستروس في كتابه “النيئ والمطبوخ” التعرف على التاريخ الثقافي من خلال مقاربة بنية الأساطير سواء المرتبطة بالمجتمع المحلي أو المجتمعات المجاورة. 

يعتمد ستروس على المقاربة البنيوية التي تبناها دائما  في مساره الفكري منذ كتابه “البنيات الأولية للقرابة”، حيث  يعتبر الأساطير بنية  غنية وذات خصوبة لا يمكن استنفاذها، فهي تمتد في المكان وتتحول عبر الزمن، لذلك فهي مختبر للتحولات الثقافية في المجتمع .

كما سيعمد ستروس في كتابه الثاني إلى المضي قدما فيما بدأه في كتابه النيئ والمطبوخ، إذ سينطلق من تحليل بنيات الأساطير مبرزا الدلالة الرمزية للغذاء في كل أسطورة على حدة مؤكدا على تجذر الغذاء في بنية الاجتماعي. 

لقد ساد الاعتقاد بأن بداية اهتمام ستروس  بالغذاء كان من خلال مقاله الشهير الذي نشر في مجلة (Arc- En- Ciel ) سنة 1965 حول ثلاثية الغذاء ؛ غير أن اهتمام هذا الباحث بموضوع الغذاء بدأ قبل ذلك التاريخ بسنوات في كتابه حول البنيات الأولية للقرابة .

إن ما يحكم اشتغال التغذية في السجل الاجتماعي بالنسبة لستروس،  ليس الممارسات الغذائية وسيروراتها الغذائية كما هو الحال بالنسبة للوظيفيين، بل هي البنيات  العميقة للمجتمع التي تحكم تغذية الإنسان في حد ذاته. في هذا السياق  اعتبر ستروس أن الانتقال من النيئ إلى المطبوخ انتقال ثقافي، كما أن الطعام المشوي يظل قريبا من الطبيعة، في حين يبقى الطهي بواسطة الماء لصيقا بالثقافة.

لقد  أضفى ستروس إذن  مكانة هامة على  النار المستعملة في الطبخ والتي تمكن من نقل الغذاء من النيئ إلى المطبوخ، هذا المطبوخ الذي يندرج حسب طريقة الطهي  في مثلث خاص:

  • المشوي بواسطة النار.
  • المبخر بواسطة البخار.
  • المدخن بواسطة الهواء.

في ذات السياق، يسجل ستروس كيف يمكن أن  تحتل  الأطباق حسب طريقة الطبخ  درجات في الحظوة والمهابة حسب المجتمعات.

 في إطار التيار البنيوي دائما، ستعتبر الأنثربولوجية البريطانية ماري دوكلاس التي يمكن القول أنها نحت منحى ليفي ستروس في اعتبارها التغذية وسيلة للتواصل شأنها في ذلك شأن اللغة. كما اعتبرت الذوق شأنا غير فردي، بل تحكمه قواعد ثقافية و دينية، وهو ما دافع عنه بيير بورديو فيما بعد في كتابه حول التمييز و الممارسة الاجتماعية للحكم  عندما تطرق إلى الذوق وتجذره في الأصول الاجتماعية للفرد .

التغذية كموضوع للبحث الإثنوغرافي 

 منذ الثلاثينات ستصبح التغذية موضوعا حاضرا بقوة في الدراسات الأنثربولوجية  والتاريخية. ففي سنة 1936 قام المتحف الوطني للفنون والتقاليد الشعبية  بفرنسا  بإنجاز دراسة مهمة حول التغذية الشعبية بفرنسا بتعاون مع لوسيان فيبر( Weber Lucien). 

 لقد أكد إكور دو كارين ( Igore de Garine) أنه  منذ كتابات مارسيل موس إلى إسهامات لوروي غوران ( Leroy Gourand) في  إطار الحديث عن تقنيات الاستهلاك، تظل التغذية موضوعا يستدعي مقاربة نسقية، لتجد مكانها في مختلف الكراسات الإثنوغرافية في الجزء الخاص بالثقافة المادية.

في هذا الإطار نجد كيف يقوم مارسيل موس بتناول موضوع التغذية ضمن فصل  فرده للتقنيات الخاصة بتلبية الحاجيات النوعية، منطلقا من أن الإنسان كائن تقني. وهنا سوف يتناول موس الاستهلاك الغذائي عارضا لمجموعة من الجوانب التي تصنف الاستهلاك الغذائي ضمن الثقافة التقنية:

  • بنية الوجبات ومحتويات المائدة.
  • بنية الأغذية المقدمة.
  • وسائل تناول الطعام.
  • تقنيات تحضير الوصفات.
  • تقنيات حفظ الأغذية.

غير أننا نرى أن مساهمة موس في موضوع التغذية ذهبت أبعد من التركيز على المظاهر التقنية للاستهلاك الغذائي. ويتجلى ذلك من خلال التطرق إلى مواضيع من قبيل وجهة وطرق التغذية أي من يتناول ماذا وكيف، فضلا عن سبر البعد السحري والإيديولوجي للتغذية.

إن طرح موس في موضوع التغذية ينحو منحى تقديم دليل منهجي يلم بمختلف المداخل المتعلقة بالظاهرة الغذائية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *