وجهة نظر

نحو ترسيخ نظرة أكثر إيجابية لدى المجتمع عن المحاماة

تعتبر مهنة المحاماة من أهم المهن التي تقوم بأدوار أساسية ومحورية داخل الدولة والمجتمع سواء على المستوى الحقوقي أو التنموي ، وهي ليست مهنة تقدم خدمات و سلع مجردة مقابل مبلغ مالي فحسب كما هو الحال بالنسبة لباقي المهن الأخرى التي يغلب عليها الطابع المادي، ولكنها أكثر من ذلك , لأنها رسالة إنسانية من بين أهم أهدافها المساهمة في تحقيق العدل ومناهضة الظلم وترسيخ ثقافة احترام حقوق الإنسان و الحريات العامة بمختلف تنوعاتها سواء كانت مدنية أو سياسية أو إقتصادية أو اجتماعية و ثقافية.

وإذا كان هذا التصور هو المفروض و المفترض في مهنة النبلاء التي تتشكل من رجال و نساء دفاع وهبوا أنفسهم للمساهمة في إحقاق الحق و تحقيق العدل ، فإنه في الواقع يلاحظ أن نظرة المجتمع و الأحكام المسبقة للمواطنين و المواطنات المغاربة تخالف و تتعارض مع هذا الطابع الحقوقي و الرمزي لمهنة المحاماة ، بل إن الكثير منهم يصف المحامين أشخاصا و صفات و مؤسسات بأقدح النعوت و أخبث الأوصاف ، حتى ممن لم يتعامل مع أي محام طيلة حياته ، و لكنه استقى هذا الحكم المسبق من النظرة العامة لأغلب أفراد المجتمع الذي ترسخ في وعيهم الجمعي تلك النظرة السيئة السلبية عن المحاماة و المحامين ، و يمكن أن نستشف هذا الأمر أساسًا من المجال التلفزيوني و السينمائي ، إذ أن الأغلبية الساحقة من الأدوار التي تجسد دور المحامي ، يتم إبراز شخصيته على انه متلاعب و ماكر و لا يؤتمن جانبه . و بالتالي أصبح يلاحظ أن مهنة الدفاع التي تصول و تجول أمام القضاء و في مختلف المحاكم من أجل الدفاع عن المجتمع و المواطنين ، أصبحت في حاجة إلى محام و دفاع لكي يؤازرها أمام محكمة المجتمع التي تطبق قانون غير عادل أساسه الجهل و عدم الوعي و ترسخ الأحكام المسبقة التي لا تستند على أي أساس حقيقي وواقعي سليم .

و لذلك، فقبل البحث عن الحلول التي يمكن الاعتماد عليها من اجل إعادة الاعتبار الرمزي للمحاماة داخل المجتمع ، لابد من تلمس بعض الإشكاليات التي جعلت النظرة الدونية لمهنة المحاماة و المحامين تتوطن داخل أذهان و عقول اغلب المواطنين. ويمكن التأكيد على أن هذه النظرة ناتجة أساسًا عن أمرين أساسين ، الأول هو غياب ثقافة بيع الخدمات لدى المجتمع ، و الثاني هو ترسخ ثقافة التعميم لدى المواطنين .

فعلى مستوى ثقافة بيع الخدمات فإن المجتمع المغربي ذو البنية التقليدية رغم مظاهر الحداثة السطحية ، مثله في ذلك مثل باقي الشعوب و المجتمعات العربية و الإسلامية ، ليست له هذه الثقافة ، بعكس المجتمعات الأوربية التي تؤمن بكون الخدمات عمل مهم و أساسي يجب أن يؤدى عنه مقابلا ماليا . أما المواطن في المجتمع المغربي على وجه الخصوص و العربي بصفة عامة ، لم يألف أن يشتري خدمات أو أشياء غير مرئية أو ليست لها دعامات مادية ، بعكس السلع التي يؤدي ثمنها وهو مطمئن البال ، لأنه يحس أن السلعة المشتراة موجودة ملئ يديه ، بعكس الخدمات التي لا يراها و بالتالي يقلل من أهميتها لأنها لا تظهر في دعامات مادية بمكن أن يتحوزها . كما أن المواطنين في المجتمع المغربي ألفوا في ثقافتهم الإسلامية و العربية و الامازيغية ، أن لا يؤذوا مقابلا للنصائح التي تقابل الخدمات ، لأنهم كانوا يقابلونها بالدعاء لمانح النصيحة سواء كانت في إطار ديني أو علمي أو واقعي ، و كانت كلمة ” الله يرحم الوالدين ” كافية بالنسبة لهم لمجازاة من يمنحهم النصيحة أو الخدمة .

ومعلوم أن هذه النظرة السطحية المتخلفة مازالت جاثمة على عقول الكثير من أفراد المجتمع إلى غاية اللحظة ، رغم أنه في الوقت الحالي أصبحت هناك الكثير من المهن الخدماتية التي تتطلب مجموعة من الشروط العلمية و الأكاديمية و المادية من أجل تأهيل الشخص لكي تكون له الأهلية لمنح المواطنين هذه الخدمة ، و التي تتطلب من ممارسها الكثير من الدراسة و الوقت و الجهد المادي و الفكري ، و بالتالي فهو يستحق عنها مقابلا ماليا محترما ، عبارة عن أتعاب ، و ليس فقط الدعاء الصالح له و لأولاده بالصلاح و الفلاح في الدنيا و الآخرة . و لذلك فتطور المجتمع و إنضاجه على المستوى الفكري سيجعله أكثر تفهما و امتنانا لعمل المحامي ، و ستغير نظرته إلى المهنة التي سيؤمن بها كآلية و ضمانة من اجل حماية حقوقه و مصالحه ، و ليس مجموعة الأشخاص يستولون على أموال كثيرة دون أن يقدموا شيئا ملموسا .

بينما الأمر الثاني هو ترسخ ثقافة التعميم لدى المجتمع المغربي ، إذ أن اغلب المواطنين المغاربة معتادون على تعميم وقائع شاذة و معزولة و استثنائية لتصبح قاعدة و معممة ، فيكفي أن يخون محامي واحد وديعة موكله ، إلا و تنتشر معه الإشاعة أن جميع رجال و نساء الدفاع خونة ، و هذا هو الإشكال الجوهري في حقيقة الأمر . و لا يمكن القول أن هذه الثقافة التعميمية لدى المجتمع المغربي في نظرتهم لمهنة المحاماة و ممارسيها فقط , بل هي راسخة على جميع المستويات ، فلم يسلم منها لا الأطباء و لا القضاة و لا باقي أطر الدولة من أصحاب المهن الحرة أو الموظفين الرسميين . و نفس الشيء بالنسبة لأي شخص منتمي لمدينة أو دولة أو عرق معين إذا اقترف خطأ ، فإن هذا الخطأ يصبح مقترفا من طرف جميع الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه المدينة أو الدولة أو هذا العرق .

ولذلك ينبغي التأكيد أن مجتمعنا المغربي ما يزال مجتمع متخلف من الناحية الفكرية و الحداثية، واستعماله لوسائل التكنولوجيا الحديثة لا يمنع من الجزم على أنه في تراجع على المستوى الفكري و التربوي . و هذا الأمر الثاني المرتبط بثقافة التعميم يصعب تغييره أكثر من المعطى الأول المتعلق بغياب ثقافة بيع الخدمات ، لأنه مرتبط بالثقافة و التربية و التنشئة التي أصبحت في الحضيض ، لا سيما بعد تخلي الوسائط التربوية الأساسية كالأسرة و المدرسة و الإعلام عن هذا الدور ، بل إن هذه الثقافة في ازدياد مطرد لا سيما مع ما أصبح يتم تداوله على مستوى الإعلام الفضائحي الإلكتروني و مواقع التواصل الاجتماعي ، و التي تكرس و توطن ثقافة تعميم الفضائح و المساوئ ، و هذا المعطى ستتضرر منه مهنة المحاماة أكثر مما هي متضررة منه في الوقت الحالي .

لذلك، يمكننا التساؤل حول ما هي أهم السبل والإجراءات التي يمكن القيام بها من أجل إحداث تصالح بين المحاماة و ممارسيها و بين المجتمع المغربي ، و من أجل القضاء بصفة نهائية أو على الأقل التخفيف من النظرة المتشككة للمجتمع المغرب اتجاه المحاماة و ممتهنيها ؟

يستدعي تغيير نظرة المجتمع السلبية عن المحاماة مجموعة من الخطط و الاستراتيجيات المباشرة و غير المباشرة ، من أجل رفع الوعي لدى جموع المواطنات و المواطنين المكونين للمجتمع بأهمية دور المحاماة داخل الدولة و المجتمع سواء على المستوى الحقوقي و التنموي . و لكن قبل البدء في التوجه نحو الآخر من اجل إقناعه بضرورة تغيير قناعاته المترسخة ، يجب أولا الاشتغال على الذات من خلال معالجة الاختلالات الداخلية ، و القضاء على الحالات الشاذة التي تشوه سمعة المهنة ، و هنا يبقى دور المؤسسات المهنية التي يجب أن تكون قوية و صارمة من اجل إما إصلاح هذه الأعطاب إذا كانت قابلة للإصلاح ، أو استئصالها بشكل نهائي تفاديا لأي انتكاسات فردية قد يؤدي تعميمها إلى الإضرار بالمكون القيمي و الرمزي لمهنة المحاماة . فترتيب البيت الداخلي و تحصين الجبهة الداخلية يبقى أهم عنصر في الإستراتيجية التي يمكن وضعها من اجل التصالح مع المجتمع و اعتبار المحاماة مع الشعب و المجتمع و ليس ضدهما .

وحين يتم تحصين الجبهة الداخلية ، يمكن حينئذ التوجه بواسطة سياسيات تواصلية تشاركية و مندمجة إلى أفراد المجتمع قصد حثهم و إقناعهم على تغيير و تعديل الصورة النمطية السلبية التي ترسخت في أذهانهم عن مهنة المحاماة ، وهذه الخطة تقتضي استغلال جميع مرافق الدولة و المجتمع من اجل توضيح دور المحاماة و الجانب النبيل الذي يتسم به عملها، سواء كانت مؤسسات تعليمية أو تربوية أو إعلامية أو رياضية أو سياسية أو تشريعية أو ثقافية … و يجب أن تنبني هذه السياسة التواصلية على ضرورة إيصال فكرة مركزية و محورية و هي أن المحاماة لم توجد من اجل أن يكتنز الممارسين لها الأموال الطائلة ، و لكنها وجدت بالأساس لحمايتهم و الدفاع عن حقوقهم و مصالحهم الفردية و الجماعية ، كما ينبغي إقناعهم أن أي مطالب يطلبها رجال و نساء الدفاع ، سواء تعلقت بتوسيع المهام أو تدعيم الحصانة و الاستقلالية ، فإنها ليست مطالب من اجل المصلحة الخاصة لهم، ولكنها بالأساس مطالب من اجل تمكينهم من التدخل بقوة و حزم لدعم حقوقهم و الحفاظ على حرياتهم .

نعم، ربما يعد موضوع علاقة المحاماة بالمجتمع أو بنظرة مكونات هذا الأخير للمهنة من المواضيع التي لا تثار كثيرا ، إلا بخصوص علاقة المحامي المهنية بزبنائه ، من خلال تحديد الحقوق و الواجبات المتبادلة لكل طرف في مواجهة الآخر . ولكنني أظن أن الوقت قد حان للنظر في علاقتنا بالمجتمع ليس في إطار مهني ضيق في إطار علاقة محامي بزبون أو موكل ، و لكن توسيع النطاق وجعله في إطار عام و مطلق ، يتأسس على ضرورة تغيير الصورة النمطية للمحامي السلبية داخل المجتمع ، و إعادة الاعتبار لدور المحامي الرمزي و النبيل داخله ، و خلق مصالحة دائمة و راسخة بين الدفاع و أفراد المجتمع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *