وجهة نظر

قراءة في كتاب الراحل محمد العربي المساري “محمد الخامس : من سلطان إلى ملك”

من بين الكتب المهمة التي ألفاها الراحل الوطني محمد العربي المساري كتاب مهم حول السلطان سيدي محمد بن يوسف، إختار له رحمه الله عنوان ” محمد الخامس من ملك إلى سلطان“، يقع الكتاب في 401 صفحة، من الحجم المتوسط، صادر عن مطبعة الرسالة، النسخة التي نحاول تقديم أبرز مضامينها، مذيلة بالطبعة الثانية سنة 2009، عبر تسعة عشر محور (19) بتتبع المساري مسار محمد الخامس منذ نفيه وحتى عودته مظفرا منتصرا إلى وطنه، هكذا ومنذ الصفحات الأولى يطالعنا بتمهيد جميل حمل عنوان فرعي هو ” محمد الخامس في القلب وفي الذاكرة”، وفيه يستحضر العربي المساري جزءا من طفولته عندما نفي محمد الخامس، يتوقف فيه مليا عند ما علق بذاكرته حول تلك المرحلة العصيبة من تاريخ المغرب، لقد أحجم المغاربة يقول المساري عن ذبح أضحية العيد، كما أنهم ومن شدة تعلقهم بسلطانهم وحبه له ورفضهم للإعتداء على عرشه، تصوروه القمر، وبذلك أعلنوا رفض “سلطان النصارى” الذي أجلسه المستعمر على عرش المغرب محمولا إليه على الدبابات والرشاشات التي حاصرت القصر الملكي العامر، هذا الالتفاف الشعبي حول السلطان الشرعي إعتبره العربي المساري ” تعبيرا عن قوة الفكرة الوطنية التي إستطاعت أن توحد الرمز وأن تخلق الاجماع وأن تتفوق على نفسها في القدرة على التعبئة ” (ص6).

كان إختيار الحماية لصبي ذو السبعة عشر عاما، هو الثالث من ذرية المولى يوسف، يروم التحكم فيه، لكن الأحداث برهنت أنه إستطاع أن يقف في وجه أعتى المقيمين العامين، لقد إستطاع أن يواجه مخططات الإقامة العامة التي كانت تود السير بالمغرب ليكون جزءا من الاتحاد الفرنسي.

كما أفزعت وثيقة المطالبة بالاستقلال التي قدمها حزب الاستقلال سنة 1944 سلطات الحماية،لجأت  إلى وضع العديد من ” الإصلاحات”، بيد أن السلطان الذي كان قد إلتحم مع الحركة الوطنية، فطن إلى أن الأمر يتعلق بحيل إستعمارية للإلتفاف على مطلب الشعب المغربي الذي عبرت عنه الحركة الوطنية في المنطقة الخاضعة للحماية الفرنسية، كما عبر عنه أيضا حزب الإصلاح الوطني في  المنطقة الشمالية وهو مطلب الاستقلال.

يتميز كتاب الأستاذ العربي المساري رحمه الله، بالإحالة على العديد من الكتابات التاريخية الأجنبية التي تناولت رد فعل الشعب المغربي على الاعتداء على العرش، ولعل ما يميز تلك الكتابات هو المعطيات والأرقام الإحصائية التي تضمنتها، ذات الصلة برد فعل الشعب المغربي، من بين تلك الكتابات كتاب “ستيفان بيرنار” الموسوم  ب ” المغرب من 43 إلى 56 “، والذي جاء فيه ” أنه ما بين 20 غشت و 2 أكتوبر 53، رصدت الأجهزة وقوع 45 عملية عنف، تضمنت 8 إغتيالات، و 9 حرائق و 12 تخريب كان أغلبها في مدينة الدار البيضاء”.

في ذات التمهيد البديع لكتابه يؤكد العربي المساري أن العمليات الفدائية ومظاهر المقاومة التي أعقبت نفي السلطان، شملت كل أرجاء التراب الوطني، وهو ما يؤكد حسبه فشل نظريات السوسيولوجيا الاستعمارية التي حاولت التفريق ما بين المدينة والبادية، وما بين العرب والبربر.

بكثير من البراعة والدقة والتوسل بالوثائق والارشيفات الفرنسية وكذا الاسبانية، يستعرض العربي المساري رحمه الله تموجات “القضية المغربية” والمسارات والأبعاد التي إتخذتها لا سيما بعد نفي السلطان،  دفعت الأحداث الدامية التي عرفتها البلاد فرنسا إلى البحث عن حل ” للأزمة المغربية”، وبعد تردد كبير وتداول العديد من الصيغ الملتبسة، التي رفضتها الحركة الوطنية التي لم ترض إلا بعودة السلطان، وعلى وقع إزدياد العمليات الفدائية وإنطلاق المقاومة المسلحة،  سوف تعلن عن  تنظيم جلسات إسماع في  “إكس  ليبان”  وتكشف محاضر وأرشفاتتلك المباحثاث الوضوح والقوة التي دافع بها ممثلو الحركة الوطنية، عن عودة السلطان وإستقلال البلاد.

لا يتناول العربي المساري المرحلة الممتدة من نفي السلطان وحتى عودته إلى أرض الوطن بمعزل عن المسار الذي إتخذته الأحداث منذ فرض الحماية على المغرب، والذي تميز برفض الشعب المغربي للإحتلال ومقاومته المسلحة والسلمية له، يقول في هذا الإطار ” إن الحركية التي إنبثقت بعد 20 غشت 1953، كانت جزءا من مسلسل طويل النفس في دأبه، وبعيد الرؤية في آفاقه…”.

يقتفي العربي المساري رحمه الله تطورات ” فكرة الاستقلال” وبكثير من الاسهاب والشرح المستفيض يقول أنها فكرة حملها السلطان محمد الخامس ونافح عنها وطرحها عند توشيحه من طرف الجنرال ديغول، عندما طرح تغيير طبيعة العلاقات المغربية الفرنسية، كما ناقح نها زعماء الحركة الوطنية على الرغم من المسافات التي كانت تفصل بينهم، إنها فكرة طرحتها يقول العربي المساري في هذا الكتاب النفيس ” مذكرة تطوان في فبراير 1943 كما طرحتها مذكرة فبراير 1944″.

إذا كان تمهيد هذا الكتاب النفيس الذي إختير له العربي المساري عنوان ” محمد الخامس في القلب وفي الذاكرة”، فإن باقي محاور الكتاب لا تقل غنى وعمقا عن ذلك التمهيد البديع، والذي لئن كان قصيرا في حجمه إلا أنه صيغ بأسلوب تركيبي غاية في العمق والوضوح يمنح القارئ إمكانية التعرف عن كتب عن تموجات ” الأزمة المغربية” بعد نفي السلطان، بل يمنحه متابعة الاجماع على فكرة الاستقلال لدى الممثلين الحقيقيين للشعب المغربي، والأجمل أنه يمنح القارئ فهم ذلك الارتباط ما بين عودة السلطان والاستقلال، فهذا الأخير كان مرتبطا بعودة محمد بن يوسف وعودة السلطان الشرعي لم تكن تعني غير إستقلال البلاد.

وقعت الإشارة إل أن هذا الكتاب القيم الذي يضم بالإضافة إلى التمهيد، الذي أوردنا أبرز مضامينه أعلاه، تسعة عشر محورا، سوف نقتصر على ملامسة مضامينها الكبرى بالنظر إلى غزارتها وكثرة المعطيات القيمة التي تضمنتها، ولكن يجب الإشارة إلى أن هذه المحاور هي غنية من الجانب التوثيقي، إذ أورد فيها المؤلف رحمه الله، قصاصات العديد من الجرائد المغربية والعربية والأجنبية التي تناولت جوانب ذات الصلة بنفي السلطان وإستقلال المغرب، في المحور الأول ” الإصلاحات التي خلا لها الجو ” وبالاعتماد على نشره للقنصلية الفرنسية بتطوان في عدد سبتمبر 1953 يتوقف العربي المساري عند ” الإصلاحات” التي باشرتها فرنسا بعد التخلص من السلطان الشرعي.

وعلاوة على ذلك يمنحنا هذا الكتاب فرصة ذهبية للتعرف على حياة السلطان محمد بن يوسف والعائلة الملكية في المنفى، وذلك في الفصل الثاني الذي حمل عنوان ” رجل منفي ومنفرد ومعزول يحرك الأحداث عن بعد بقوة”، والفكرة الأساسية هي أنه وعلى الرغم من تواجد السلطان في المنفى إلا أنه ظل محور الأحداث ومشرأب الأعناق، المحور الثاني  “مد الجسور مع الفرنسيين المستنكرين للأمر الواقع“، توقف فيه العربي المساري عند المبادرات التي ظهرت في المغرب، وكذا في فرنسا لتقريب الشقة وإقامة الجسور بين فرنسا والمغرب وهي المبادرات التي أسهب العربي المساري في تفصيل الشخصيات التي قادتها وكذا في الوقوف عند صداها في الصحافة الفرنسية الصادرة بالمغرب.

في المحور الرابع من الكتاب يتوقف العربي المساري مطولا عند العمل الكبير الذي قامت به جمعية الصداقات المغربية، التي لعبت دور الوساطة ما بين الوطنيين المغاربة والأقامة العامة ولا سيما أنها كانت تضم في عضويتها بعض المغاربة، هذا المحور إختار له المؤلف عنوان فرعي ” إدانة سياسة القوة والتمهيد للوساطة”.

ينتقل إثر ذلك المؤلف في المحور الخامس إلى الحديث عن ” خلية الاستخبارات” التي كانت تتبع حزب الاستقلال والعمل الوطني الذي قامت به في طنجة التي كانت أنذاك تحت الحكم الدولي، مستعينا في ذلك بشهادات وطنيين عايشوا تلك الأحداث، والتي تظهر الدعم الذي كانت تقدم خلايا الحركة الوطنية في طنجة للمواطنين في المنطقة التي كانت تخضع للحماية الفرنسية، يورد المؤلف في هذا المحور العديد من الوثائق النادرة والنفيسة ومنها وثيقة “عريضة تجديد بيعة طنجة”، وبالنظر إلى إنتماءه إلى مدينة تطوان ولكونه كان مضطلع على نشأة وتطور الحركة الوطنية في الشما،ل فقد خصص العربي المساري رحمه الله المحور السادس من هذا الكتاب، للأدوار التي لعبتها تطوان ما بعد  نفي السلطان الشرعي، ومع إشتداد القمع الفرنسي لقادة الحركة الوطنية ومنعها للعمل الحزبي والصحفي فقد كان إستئناف حزب الاصلاح للعمل السياسي في سنة 1952 فرصة لفضح سياسة فرنسا، يؤكد المؤلف أن الأمر كان أشبه بتحالف غير مكتوب بين فرانكو والوطنية المغربية، مكن من خلق الروافد والمنافد للعمل المسلح القائم في منطقة ” الحماية الفرنسية وضمان إيواء الفدائيين اللاجئين إلى الشمال”، يتميز هذا الكتاب بغنى الوثائق والرسائل التي يوردها، يرصد العربي المساري في المحور السابع جانب من المحاولات الأولية للخروج من الأزمة، كما يتوقف في المحور الثامن، مقاومة السلطان محمد بن يوسف للضغوطات الكثيرة التي مورست عليه وهو في المنفى، وبالإضافة إلى ذلك، فقد خصص المؤلف أربع محاور للحديث عن مباحثاث “إكس ليبان” موردا العديد من المعطيات والوثائق المهمة حولها، أما باقي فصول الكتاب فتتناول  جوانب مهمة ومرحلة دقيقة من تاريخ كفاح الشعب المغربي.