لطالما كان سقوط العاصمة بغداد بيد الجيش الأمريكي في 20 مارس/آذار 2003 مشابهاً لسقوطها بيد المغول عام 1258. فبغزو المغول، انهارت الدولة العباسية ودُمِّرت بغداد، بما تحمله من تراث فكري وحضاري، وأُحرقت مكتبة بيت الحكمة، فسقطت بذلك أكبر حاضرة إسلامية آنذاك. وهنا نستحضر مقولة كارل ماركس: “إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة.” وما نراه الآن في العراق هو عين المهزلة، حيث أدى الغزو الأمريكي إلى إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة، عبر سياسة الفوضى الخلاقة التي عمّقت الانقسامات بدلًا من تحقيق الاستقرار.
ما الذي مثله الغزو الأمريكي للعراق؟
منذ البداية، بُني الغزو الأمريكي للعراق على مبررات واهية، أبرزها ادعاء امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل، وأنه يشكل تهديدًا للأمن الدولي. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2002، أجاز الكونغرس الأمريكي استخدام القوة العسكرية ضد العراق، رغم افتقاد هذه المزاعم لأي دليل حقيقي. لاحقًا، أثبتت لجنة تشيلكوت أن إدارة جورج بوش الابن اعتمدت على معلومات استخباراتية مغلوطة، وأنها كانت على علم بعدم قدرة النظام العراقي على تطوير أسلحة محظورة قبل الغزو بعامين. هذا يقودنا إلى فلسفة فرويد في تفسير الحروب، حيث يرى أن النزعة الحربية تنطلق من حاجة إلى شيطنة الآخر وتصويره ككيان غير إنساني، لتبرير العدوان ضده. فالإدارة الأمريكية قدمت العراق، عبر خطابها الإعلامي، على أنه جزء من “محور الشر”، واستعملت نفس الأساليب الاستشراقية التقليدية التي صورت شعوب الجنوب على أنها متخلفة، تحتاج إلى “إنقاذ” من قبل القوى الغربية التي تدّعي زعامة العالم الحر .أما التبرير الأهم الذي رفعته الولايات المتحدة لغزو العراق، فكان نشر الديمقراطية والسلام في الشرق الأوسط. لكن هذه “الديمقراطية” المفترضة جاءت على حساب أكثر من مليون قتيل وجريح، وأنتجت دولة غارقة في الفوضى الطائفية والسياسية. وهذا يعيدنا إلى تاريخ القوى الاستعمارية، التي لطالما استخدمت شعارات مثل نشر الحضارة، وتحقيق التنمية، وتعليم “الشعوب غير البيضاء” مبادئ الليبرالية، وإنقاذها من براثن التخلف بينما كانت أهدافها الحقيقية تتلخص في نهب الثروات وتعزيز الهيمنة وتفتيت المفتت وتجزئة المجزء وذلك من أجل خلق الشرق الأوسط الجديد الذي تحلم به إسرائيل باعتباره موجة ثانية من سايس بيكو جديد في المنطقة.
الإمبريالية الإنسانوية: حين تصبح حقوق الإنسان ذريعة للغزو
“إنه لأمر محبط أن ترى النظام الدولي يُمكن القوي من الإفلات من العقاب حتى لو ثبتت جرائمه، كما في حالة الغزو الأمريكي للعراق.” هذه الحقيقة تلخص كيف استطاعت الولايات المتحدة استغلال المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لتبرير احتلالها للدول وإعادة رسم خرائط العالم وفقًا لمصالحها. الغرب، الذي يقسّم العالم إلى منطقتين: الأولى تحت مظلة القانون والسلام، والثانية غارقة في الفوضى والحرب، يفرض قوانينه على الآخرين لكنه يستثني نفسه وحلفاءه منها. فمن خلال هذه الازدواجية، تُفرض العقوبات على دول مثل العراق وإيران وكل من يحاول رفض النموذج الغربي، بينما تُمنح إسرائيل كل أشكال الدعم، رغم امتلاكها ترسانة ضخمة من أسلحة الدمار الشامل، ورفضها دخول أي مفتشين دوليين إلى منشآتها. فالحرب ليست مجرد أداة سياسية، بل هي في جوهرها جزء من المنظومة الرأسمالية الإمبريالية، التي تعتمد على شن الحروب كوسيلة لضمان الهيمنة الاقتصادية والسياسية. وكما قال الصحفي المقرب من الخارجية الأمريكية توماس فريدمان عام 1991:
“اليدّ الخفية للسوق لا تستطيع العمل بدون القبضة الخفية للجيش الأمريكي.” فتحول العراق من بلد ذو صناعة ثقيلة متقدمة في المنطقة إلى دولة لا يصنع شيء في العراق فهل من المعقول أن عراق دجلة والفرات وصاحب ثروات نفطية هائلة يستورد الطاقة من إيران؟ ولديه عجز طاقي سواء في الكهرباء أو الماء؟
الديمقراطية كأداة للهيمنة
إن الحديث عن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط يبدو أقرب إلى النكتة السوداء، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة دعمت لعقود طويلة أكثر الأنظمة قمعًا وفسادًا في العالم العربي وغيره، مثل نظام الشاه في إيران، والأنظمة العربية قبل تحولات 2011. فكيف يمكن إذن تصديق الخطاب الأمريكي حول الديمقراطية، بينما حلفاؤها الآخرون في المنطقة العربية يجددون دساتير بلادهم ليمنحوا أنفسهم سلطات مطلقة وتأبيد حكمهم دون أي اعتراض أمريكي؟ ولماذا لم تتدخل واشنطن لنشر الديمقراطية في هاته الدول ففي الواقع نشر الديمقراطية لم يكن هدفًا حقيقيًا، بل كان مجرد وسيلة لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية والغربية. وكما أوضح المحلل الاستراتيجي توماس بارنيت في كتابه “خريطة البنتاغون الجديدة: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين”:
“الدور الأول والأخير للإمبراطورية الأمريكية ليس المبادئ الديمقراطية ولا حقوق الإنسان، بل فرض العولمة الرأسمالية حتى لو تطلب الأمر اللجوء إلى الحرب.”
النيوليبرالية الإمبريالية: تفكيك الهوية الجماعية للأمم
يرى الباحث عبد الوهاب المسيري أن النموذج الحضاري الحداثي الغربي لم يعد متمحورًا حول الإنسان كقيمة كما هو الحال في الفكر الليبيرالي الكلاسيكي، بل أصبح متمركزا حول المادة والربح. فالرأسمالية النيوليبرالية المتشددة تقوم على تفكيك الهوية الجماعية للمجتمعات، وتحويل الأفراد إلى مجرد كائنات استهلاكية لا طعم لها ولا لون من خلال فرض العولمة، مما يضمن سهولة السيطرة عليهم. وبالتالي، لم تعد حقوق الإنسان مجرد مبادئ، بل تحولت إلى أداة لتفكيك الدول وإعادة تشكيلها بما يخدم النظام الرأسمالي العالمي. فحين تريد القوى الإمبريالية التدخل في دولة ما، تستخدم شعارات مثل حقوق المرأة، حقوق المثليين، حماية البيئة، لكنها تتجاهل تمامًا حقوق ملايين القتلى الذين سقطوا بفعل الحروب التي أشعلتها وهذا هو عين ما حققه الغزو الأمريكي للعراق إذ لم يُسفر الاحتلال عن بناء دولة المؤسسات والقانون التي وعد بها الشعب العراقي والمجتمع الدولي، بل عمّق الانقسامات وأعاد تشكيل الدولة وفق ثالوث الطائفة والعشيرة والغنيمة. وذلك من خلال “الفوضى الخلاقة”، بما هي مفهوم سياسي واجتماعي، إذ يقول الدكتور سعيد الحسين عبدلي وهو من أبرز البحاث الذين تناولوا مفهوم الفوضى الخلاقة “إن الديمقراطية بالنسبة للآخر المتفوق غاية ووسيلة. فإذا تعلق الأمر بسياساته الاستعمارية والتسلطية تكون وسيلة لتحقيق برامجه التوسعية” وكنتيجة حتمية لذلك تم تفكيك أسس الدولة الوطنية، وتحطيم ركائزها السياسية والاقتصادية، مما أدى إلى إضعاف الشعور بالانتماء الوطني لصالح هويات فرعية مذهبية وعشائرية .وجعل العراق يخوض حروبا بالوكالة في المنطقة. ساهمت هذه الفوضى في خلق بيئة يسودها العنف وانعدام الأمن، حيث أصبح السلاح أداة رئيسية لإدارة الخلافات، وبرزت الميليشيات بوصفها سلطة موازية للدولة، ما جعل العراق نموذجًا لدولة رخوة، تتحكم فيها الولاءات الضيقة بدلًا من الهوية الوطنية الجامعة. ولم يكن هذا مجرد نتيجة عرضية، بل كان جزءًا من عملية ممنهجة لإعادة تشكيل المجتمع العراقي، بحيث يصبح عاجزًا عن بناء دولة ذات سيادة، ويبقى خاضعًا للنفوذ الخارجي، فاقدًا لاستقلال قراره، وغارقًا في صراعات داخلية تُبعده عن أي مشروع نهضوي حقيقي.
حرب من أجل الهيمنة، لا الديمقراطية:
لقد أثبت غزو العراق أن كل حرب إمبريالية هي جريمة مغلّفة بشعارات نبيلة فالحروب ليست إلا نتيجة حتمية للصراعات الطبقية في النظام الرأسمالي، حيث تلجأ القوى الكبرى إلى العنف عندما تعجز عن تأمين أرباحها بوسائل سلمية. وبهذا يمكن القول بأن الغزو الأمريكي لم يكن خطوة نحو الديمقراطية، بل كان خطوة نحو الفوضى، وهو نموذج صارخ لكيفية استخدام الليبرالية والحداثة كأدوات استعمارية. فالديمقراطية التي يُروّج لها الغرب ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة للهيمنة، تمامًا كما كانت شعارات “الحضارة” و”التمدن” في عصور الاستعمار التقليدي.