كشف بحث علمي جديد عن ممارسات ثقافية فريدة لدى مجتمع بشري قديم عاش في شمال شرق المغرب قبل حوالي 15,000 عام، حيث أظهرت بقايا عظام طائر الحبارى الكبرى المذبوحة والموجودة في قبورهم أهمية خاصة لهذا الطائر في حياتهم، إذ كانوا يتغذون عليه ويضعونه كجزء من طقوس دفن موتاهم.
الدراسة التي نشرت في مجلة “IBIS” العلمية، سلطت الضوء على اكتشافات في مغارة تافوغالت (المعروفة أيضا باسم Grotte des Pigeons) شرق المغرب، وهو موقع أثري هام يحتوي على رفات أكثر من 30 إنسانا قديما، حيث سمحت الظروف البيئية المميزة للكهف بالحفاظ على مجموعة واسعة من المواد البيولوجية، بما في ذلك عظام الحيوانات والنباتات، مما أتاح للباحثين تكوين صورة مفصلة بشكل مدهش عن حياة هؤلاء البشر القدماء.
وفي هذا السياق، ركزت الدكتورة جوان كوبر، الباحثة التي قادت الدراسة، على تحليل بقايا الحبارى الكبرى الموجودة في المقابر البشرية لفهم دور وأهمية هذه الطيور في ثقافة هذا المجتمع القديم، قائلة إن الطائر لعب دورا ثقافيا وروحيا في حياة هذه الجماعة القديمة، مبرزة أن تحليل العظام، وخاصة عظم الصدر الذي يحمل علامات تقطيع، يشير إلى أن الطائر لم يُستخدم فقط كغذاء، بل كان جزءا من طقس جنائزي احتفالي يشبه إلى حد كبير “وليمة خاصة”.
من جانبه، قال جو، أحد الباحثين المشاركين في الدراسة: “نرى ارتباطا ثقافيا قويا بالحبارى الكبرى لأن الناس لم يودعوها في المدافن فحسب، بل هناك أيضا أدلة على أنهم كانوا يأكلونها أيضا. يبدو أنه إعداد وليمة، وهو نوع محدد جدا من طقوس الأكل”.
وأوضح جو أن موطن الحبارى الكبرى يقع في السهول المفتوحة والأراضي الزراعية، وليس في المناطق الجبلية المحيطة بالكهف، مما يعني أن هؤلاء البشر القدماء كانوا ينزلون إلى السهول لصيد الطائر ونقله إلى الكهف لإعداده وطهيه واستهلاكه في سياق خاص مرتبط بمدافنهم.
وأشار الباحثون إلى أن العثور المتكرر على بقايا الحبارى الكبرى في المقابر الأكثر أهمية، والتي احتوت أيضا على عظام مذبوحة ومطهية لحيوانات أخرى مثل جماجم الأغنام البرية، يؤكد على الأهمية الثقافية الخاصة لهذا الطائر. فصيد وإعداد طائر كبير مثل الحبارى الكبرى، الذي يعتبر من أثقل الطيور الطائرة في العالم، كان يتطلب وقتا وجهدا كبيرين، مما يشير إلى أن هذا السلوك لم يكن مجرد تناول وجبة عادية، بل كان جزءا من طقوس الولائم المرتبطة بالدفن.
ولا يزال طائر الحبارى الكبرى، المعروف بحجمه المهيب والذي قد يصل وزن الذكور فيه إلى نحو 20 كيلوغراما، يعيش اليوم في المغرب ضمن منطقتين فقط، ويُعد من الأنواع المهددة بالانقراض نتيجة الصيد الجائر وتدهور موائله الطبيعية، حيث يعيش في المغرب الآن زهاء 70 طائرا من هذا النوع فقط.
ويُظهر الاكتشاف أن البشر القدماء كانوا يخرجون من مناطقهم الجبلية نحو السهول لصيد هذا الطائر، ثم يعودون به إلى الكهوف ليتم تحضيره وتناوله ضمن طقوس اجتماعية خاصة ترافق دفن الموتى، مما يعكس مكانة رمزية للطائر في ثقافتهم.
وتلفت الدراسة أيضا إلى أن سكان كهف تافوغالت لم يقتصروا على أكل الحبارى، بل استهلكوا كذلك نباتات طبية مثل الإيفيدرا، بالإضافة إلى الجوز والعرعر، مما يعطي صورة شاملة عن نمط حياتهم المعقد والمتنوع.
ويأمل الباحثون أن يساهم هذا الاكتشاف الجديد، الذي يؤكد على التاريخ الطويل للحبارى الكبرى في شمال إفريقيا ودوره الثقافي في حياة المجتمعات القديمة، في تعزيز جهود الحفاظ على هذا النوع المهدد بالانقراض في المغرب اليوم، اعتباره جزءا من التراث الطبيعي والثقافي للبلاد.
ويشير هذا الاكتشاف إلى أن العلاقة بين الإنسان والحبارى الكبرى في شمال إفريقيا تمتد لآلاف السنين، وأن هذا الطائر لم يكن مجرد مصدر غذاء، بل كان يحظى بمكانة ثقافية خاصة لدى المجتمعات القديمة التي عاشت في هذه المنطقة.