حين تُصاغ السياسات في الظلام
في المغرب، تُناقش الجريمة بكثرة داخل المجالس التشريعية، في الإعلام، وحتى في الشارع العام. تصدر القوانين، تتغير المساطر، تُرفع العقوبات… لكن، خلف هذا الزخم القانوني، يظل السؤال الجوهري غائبًا: هل نملك قاعدة معرفية حقيقية حول الظاهرة الإجرامية؟ هل نعلم على وجه الدقة من يرتكب الجريمة، متى، كيف، ولماذا؟
الواقع أن جزءًا كبيرًا من السياسات الجنائية يتم تصوره وتطبيقه في غياب بنية معلوماتية موحدة، مما يجعل تلك السياسات أقرب إلى ردود فعل منها إلى خطط استراتيجية.
أين العقل التحليلي للدولة؟
دول عديدة، سبقتنا في هذا المجال، أنشأت مؤسسات تُعنى بتحليل المعطى الجنائي وصناعة القرار المبني على المؤشر. فرنسا مثلًا، أنشأت منذ سنة 2003 المرصد الوطني للجريمة والاستجابة الجنائية، الذي أضحى أداة توجيه للسلطات الأمنية والقضائية. كندا بدورها تعتمد على مركز متخصص في إحصائيات العدالة، يُصدر تقارير دورية، ويُمكّن الباحثين والمشرّعين من فهم الجريمة وفق تطورها الزمني والمجالي.
تلك الدول لا تكتفي بزجر الفعل الإجرامي، بل تسعى إلى فهمه. تضع له خريطة، سياقًا، وتفسيرًا. وهذا ما نفتقده حاليًا في المغرب.
المعطيات المشتتة لا تصنع سياسة جنائية
رغم المجهودات التي تقوم بها النيابة العامة، والمديرية العامة للأمن الوطني، والمندوبية العامة لإدارة السجون، إلا أن المعطيات تظل متفرقة، غير موحدة، وغالبًا غير متاحة للباحثين أو للرأي العام.
لا توجد آلية مركزية تقوم بجمع وتحليل هذه البيانات، وتصنيفها حسب النوع، الجهة، الفئة، الأسباب… ما يجعل السياسة الجنائية تتحرك وفق منطق جزئي، يعتمد على ما يتيسر من المعلومات لا على ما هو ضروري منها.
نحن نحارب الجريمة ونحن لا نعرف شكلها الحقيقي، ولا خريطتها الجغرافية، ولا ديناميتها الاجتماعية أو النفسية. فكيف نُخطط لما نجهل؟
المرصد الوطني: ذاكرة الدولة الجنائية
إن إنشاء مرصد وطني للإجرام، مستقل وظيفيًا، ومتعدد التخصصات، أصبح ضرورة مؤسساتية لا تقبل التأجيل. هذه الهيئة يجب أن تكون عقلًا تحليليًا للدولة، تتجاوز التوثيق نحو الفهم، والاستشراف، والتوجيه.
يُفترض في هذا المرصد أن:
• يُجمّع المعطيات من مختلف الأجهزة والمؤسسات.
• يُحلل الظواهر وفق مؤشرات علمية دقيقة.
• يُصدر تقارير دورية موجهة لمتخذي القرار.
• يُشارك في التكوين والتأطير.
• يُنتج المعرفة الأمنية التي تُضيء الطريق أمام السياسة الجنائية.
من الزجر إلى الذكاء الجنائي
العقاب، وحده، لا يصنع عدالة. والردع، وحده، لا يكفي لتحقيق الأمن. ما تحتاجه السياسة الجنائية المغربية هو الذكاء، أي التحليل الاستباقي، القدرة على التوقع، والتدخل قبل فوات الأوان. وهذا لن يتحقق إلا بوجود جهاز يشتغل على المعطى، يُعيد بناء الذاكرة الجنائية المفقودة.
فنحن اليوم، في سياق وطني ودولي بالغ التعقيد، حيث الجريمة تتغير بوتيرة تسبق التشريع، وتنتقل من الفضاء الواقعي إلى الرقمي، ومن المجرم الفرد إلى الشبكات المنظمة. أمام هذا المشهد، لا يمكن أن نستمر في تسيير العدالة بالعقل التقليدي.
خلاصة:
إن السؤال المطروح هنا لا يحتاج جوابًا، بقدر ما يحتاج قرارًا سياسيًا جريئًا.
هل يمكن أن نصوغ سياسة جنائية بلا بيانات؟
الجواب واضح… السياسات العمياء لا تُنتج عدالة، بل تُعيد إنتاج الجريمة.