في واحدة من أكثر المشاهد مأساوية في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، تحوّلت نقاط توزيع المساعدات الإنسانية إلى مصائد للدمار، بعدما استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي مئات الفلسطينيين الجوعى الذين تجمعوا فجر الأحد غربي مدينة رفح للحصول على مساعدات غذائية أعلنت عنها مؤسسة أميركية مدعومة من إسرائيل.
ووفق وزارة الصحة في غزة، أسفرت المجزرة الجديدة عن استشهاد 49 فلسطينيا على الأقل، وإصابة أكثر من 200، بينهم 5 في حالة موت سريري و30 حالة حرجة، بعد أن فتحت الآليات العسكرية الإسرائيلية نيرانها صوب المدنيين.
وأفاد شهود عيان لوكالة الأناضول للأنباء التركية، بأن الهجوم تم بأسلحة رشاشة من آليات إسرائيلية وطائرات مسيّرة، بينما ألقيت قنابل غاز لتفريق الحشود، ما تسبب في حالة من الفوضى والهلع.
ومنذ نحو أسبوع، بدأت مؤسسة أميركية تُدعى “غزة الإنسانية”، مدعومة من الحكومة الإسرائيلية، تنفيذ مشروع لتوزيع المساعدات في رفح وخان يونس ووسط القطاع، في غياب تام لأي دور أممي، وسط اتهامات باستخدام المساعدات كأداة عسكرية.
لكن منذ اليوم الأول لانطلاق هذا المشروع، وقعت اشتباكات وفوضى وسط عجز الشركة عن تنظيم الحشود. وبحسب تقارير ميدانية، فإن هذه الآلية تسببت في مقتل عشرات الفلسطينيين، مما دفع المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى وصفها بأنها “مصائد قتل جماعي مموّهة بغطاء إنساني كاذب”.
كما اتهمت سلطات غزة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة بالمسؤولية الكاملة عن هذه المجازر، داعيةً إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة، وفتح المعابر الإنسانية فورًا تحت إشراف الأمم المتحدة.
الإبادة عبر “طعام مميت”
من جهته، قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن الإصرار الإسرائيلي على استمرار توزيع المساعدات عبر هذه المؤسسة يندرج ضمن “منظومة الإبادة الجماعية”. ووثّق فريقه إطلاق النار من دبابات وطائرات مسيّرة على آلاف المدنيين أثناء انتظارهم الحصول على الغذاء.
وتحدث المرصد أيضًا عن إطلاق قنابل غاز من قبل موظفين تابعين للمؤسسة الأميركية، ما يؤكد ضلوعها في الأحداث الدموية، وسط تجاهل متعمد لمعايير الحياد والاستقلالية في العمل الإنساني.
وفي شهادة صادمة، قال كريستوفر غانيس، المتحدث السابق باسم وكالة الأونروا، إن مؤسسة “غزة الإنسانية” تُدار من قبل “عسكريين سابقين ومرتزقة”، ووصف عملها بأنه “تجريد مطلق من الكرامة وتحويل الإغاثة إلى أداة حرب”.
وأضاف غانيس: “يريدون استخدام الجوع كسلاح تهجير جماعي وتطهير عرقي، والمساعدات ليست سوى واجهة مزيّفة لهذه الخطة، بغطاء أميركي كامل”. وأشار إلى أن صور الأقفاص الحديدية التي احتُجز فيها الجوعى عند مراكز التوزيع تُمثّل انتهاكًا صارخًا لمبادئ القانون الإنساني.
وأبرز غانيس أن إسرائيل تسعى عبر هذه الآلية إلى دفع الفلسطينيين لمغادرة شمال القطاع نحو الجنوب، تمهيدًا لترحيلهم خارج غزة، في إطار ما وصفه بـ“التنفيذ العملي لخطة ترامب”، التي تنص على إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى.
ورغم إصدار محكمة العدل الدولية في يناير ومارس 2024 قرارات تُلزم إسرائيل بضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، فإن تل أبيب تجاهلت تلك التدابير، وأبقت المعابر مغلقة، ما أدّى إلى تفاقم المجاعة، خصوصًا في شمال القطاع.
وفي ظل الحصار المطبق منذ مارس الماضي، يواجه 2.4 مليون فلسطيني خطر المجاعة الشاملة، بحسب المكتب الإعلامي في غزة، الذي أكد أن قوات الاحتلال أعدمت أكثر من 170 فلسطينيًا خلال أقل من 4 أشهر أثناء انتظارهم مساعدات غذائية.
ورغم توالي المجازر، تواصل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الصمت والتقاعس عن اتخاذ إجراءات رادعة، بينما تواصل إسرائيل منع وكالة الأونروا من العمل في غزة.
وأكد غانيس أن الأونروا وحدها تمتلك شبكة مراكز توزيع الغذاء وبنية تحتية موثوقة، مشددًا على ضرورة تمكينها من استئناف عملياتها بدلًا من منح “كيانات عسكرية متنكرة في ثوب الإغاثة” صلاحيات توزيع المساعدات.
وفي ظل هذه الوقائع، تبقى المجاعة في غزة سلاحًا موجهًا ضد السكان المدنيين، وتبقى المساعدات، في ظل الغطاء الأميركي والدعم الإسرائيلي، أداة للإبادة الجماعية، وليس لإنقاذ الأرواح.