منتدى العمق

الانكفاء كخيار وجودي: صعود الذات الصامتة في المشهد المغربي

من زمن الهتاف إلى عصر التراجع: قراءة في التحول الثقافي

في فترات تاريخية غير بعيدة، كان حضور الشباب المغربي في الفضاء العام ملموسا، لا على مستوى الحراك السياسي فقط، بل أيضا في السجالات الفكرية، الممارسة الثقافية، والعمل المدني. كنا نسمع أصواتا تخترق الجدران، شعارات تدون في الذاكرة، ونقاشات تملأ الساحات الجامعية والمقاهي.
أما اليوم، فإن المشهد يبدو أكثر برودة. لقد انتقلنا من زمن الهتاف إلى عصر التراجع، حيث يتقدم الصمت كحالة جماعية، واللامشاركة كاختيار ذاتي.

هذا التحول لا يمكن قراءته بمعزل عن انحسار الثقة في جدوى الفعل، وانكماش الأمل في التغيير، وتآكل رمزية الفضاءات العمومية كمجال للتأثير والانخراط.

الشباب والانسحاب الرمزي: حين تصبح “الدار ديالي” وطنا نهائيا

لم يعد الشاب المغربي يبحث بالضرورة عن تموقع اجتماعي داخل مؤسسات الدولة أو حتى داخل المجموعات المنظمة. لقد أصبح المجال الخاص (الغرفة، الهاتف، الدائرة المغلقة من الأصدقاء، وحتى العزلة) هو الإطار الوجودي الأكثر أمنا.
لا يفهم هذا الانكفاء كنوع من الكسل أو اللامبالاة، بل كحالة دفاعية ضد سياق يشعر فيه الفرد بأن أي تحرك خارج “الدار ديالو” قد يُكلفه الكثير دون مقابل.

بهذا المعنى، تصبح الدار ملجأ وجوديا، تعويضا عن وطن رمزي بات يشعر فيه المرء بالغربة أكثر مما يشعر بالانتماء.

ماعنديش مع السياسة”: تفكيك معجم اللامبالاة اليومية

تتردد هذه العبارة على ألسنة الشباب كما لو كانت نشيدا جماعيا. لكن ما تحمله من دلالات يتجاوز البعد السطحي للنفور من الأحزاب أو الحملات الانتخابية.
هي إعلان ضمني عن فقدان المعنى، ونفور من خطاب سياسي فقد مصداقيته، ومن فاعلين باتوا ينظر إليهم ككائنات معزولة عن هموم اليومي.

عندما يقول الشاب: “ماعنديش مع السياسة”، فهو لا يعني بالضرورة الجهل بها، بل يشير إلى شعور عميق بأن السياسة أصبحت بلا أثر، بلا أفق، بل ومفرغة من جدواها.

الخطاب العام كمجال موبوء: صعود ثقافة “خلينا ساكتين

الانكفاء لا ينتج في فراغ. فهناك بيئة ثقافية تغذيه وتشجع على “الصمت الآمن”.

في الإعلام، تغيب النماذج النقدية ويستعاض عنها بالمحتوى الترفيهي السطحي.

في الأسرة، ينظر إلى الجدل باعتباره قلة احترام.

في التعليم، يتم تأديب التفكير المختلف، لا تشجيعه.

هكذا تنشأ ثقافة “خلينا ساكتين”، حيث التعبير الحر يقابل بالسخرية، أو التوبيخ، أو حتى الإقصاء. إنها ثقافة تؤسس لصمت جماعي، ليس لأنه لا يوجد ما يقال، بل لأن البيئة لم تعد تحتمل أي قول خارج المعتاد.

الانكفاء بوصفه وعيا مهزوما… لا غافلا

ليس الانكفاء حالة من الغفلة أو الجهل. إنه، في العمق، تجل لهزيمة الوعي أمام جدار كثيف من الانسداد والخذلان.
الشباب لا ينسحبون لأنهم لا يفهمون، بل لأنهم فهموا كثيرا، ووجدوا أن الفهم لا يمنحهم سلطة التغيير.
الوعي المهزوم هو الوعي الذي يرى المشهد بكل تناقضاته، ويختار الانسحاب لأنه لم يعد يرى جدوى في الكلام أو المشاركة.

وهذا أخطر من الجهل. لأن الصامت هنا مثقف، مطلع، لكنه لا يرى نوافذ مفتوحة أمامه.

هل يمكن استعادة الصوت؟ شروط بناء الذات المتكلمة من جديد

السؤال المطروح في ختام هذا التحليل ليس دعوة للشباب بالكلام عوض الصمت، بل هو دعوة للمجتمع برمته لطرح الشروط الضرورية لبناء ذات جديدة: ذات متكلمة، واثقة، وفاعلة.

نحتاج إلى مدرسة تعلم الجدل لا الطاعة.

إلى إعلام يمنح المنصة لمن يفكر لا لمن يصرخ.

إلى خطاب رسمي يعترف لا يلقن.

وإلى ثقافة مجتمعية تبارك السؤال لا تخيفه.

حينها فقط، قد يعود الصوت المغربي إلى الواجهة، لا بوصفه صدى لما يراد له، بل كتعبير أصيل عن الذات، المعنى، والانتماء.