منتدى العمق

البوابة الوطنية الموحدة للشكايات بالمغرب رافعة للتخليق المؤسساتي وتعزيز الحكامة الجيدة

 

مقدمة:

تُعد البوابة الوطنية الموحدة للشكايات بالمغرب خطوة استراتيجية ومفصلية في مسار تحديث الإدارة وتعزيز مبادئ الحكامة الجيدة، وتأتي هذه المبادرة استجابة للتوجيهات السامية لصاحب الجلالة محمد السادس نصره الله ومضامين الدستور المغربي، فضلاً عن انسجامها مع البرنامج الحكومي الرامي إلى تطوير منظومة موحدة ومتكاملة لتدبير الشكايات. ويُعد هذا التوجه تجسيداً للفلسفة الملكية الرامية إلى ترسيخ العلاقة بين الإدارة والمواطن داخل وخارج المغرب على أسس الشفافية والمسؤولية، حيث سبق لجلالته أن أكد في الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة الملك في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة بتاريخ 14 أكتوبر 2016:

«[…]إن الهدف الذي يجب أن تسعى إليه كل المؤسسات، هو خدمة المواطن. وبدون قيامها بهذه المهمة، فإنها تبقى عديمة الجدوى، بل لا مبرر لوجودها أصلا. […] ومن غير المقبول، ألا تجيب الإدارة على شكايات وتساؤلات الناس وكأن المواطن لا يساوي شيئا، أو أنه مجرد جزء بسيط من المنظر العام لفضاء الإدارة. فبدون المواطن لن تكون هناك إدارة. ومن حقه أن يتلقى جوابا عن رسائله، وحلولا لمشاكله، المعروضة عليها. وهي ملزمة بأن تفسر الأشياء للناس وأن تبرر قراراتها التي يجب أن تتخذ بناء على القانون […] »

إن إنشاء هذه البوابة، التي تهدف إلى تحقيق الشفافية والثقة والمسؤولية، يعكس إدراكاً عميقاً للدور المحوري للمواطن كشريك أساسي في تقويم أداء الإدارة وتحسين جودة خدماتها.

تهدف هذه الورقة التحليلية إلى تسليط الضوء على أهمية هذه البوابة ودورها المركزي في تخليق الحياة العامة والمؤسسات العمومية، وذلك من منظور أكاديمي يسهم في فهم أعمق لآلياتها وتأثيراتها المتوقعة.

 

أولاً: الأهمية والأبعاد الوظيفية للبوابة في تعزيز التخليق المؤسساتي

تتجاوز أهمية البوابة الوطنية الموحدة للشكايات مجرد كونها منصة تقنية لاستقبال ومعالجة الشكايات، لتصبح أداة استراتيجية لتعزيز التخليق المؤسساتي وتحسين جودة الخدمات العمومية من خلال عدة أبعاد:

  1. تعزيز الشفافية والمساءلة: تُشكل البوابة قناة فعالة لتعزيز الشفافية في عمل الإدارة، حيث تتيح للمواطنين تقديم شكاياتهم وتتبعها بشكل إلكتروني وشفاف في أي مكان وزمان. هذا التتبع المستمر للشكاية، من خلال إدخال البريد الإلكتروني ورقم الشكاية، يمكّن المواطن من الاطلاع على مدى التقدم في معالجتها، مما يقلل من الغموض ويزيد من إمكانية مساءلة الإدارات. كما أن إمكانية التعبير عن مستوى الرضا بعد معالجة الشكاية وإعادة فتحها في حال عدم الاقتناع بالجواب، يعمّق من مبدأ المساءلة ويجبر الإدارة على تقديم حلول حقيقية ومقنعة.
  2. مكافحة الفساد وترسيخ العدالة الاجتماعية: تهدف البوابة إلى توفير الوقت والجهد وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية والعمل التشاركي من أجل القضاء على الفساد. فمن خلال توفير قناة موحدة ومركزية للشكايات، يتم الحد من التجاوزات الفردية والممارسات غير الشفافة التي قد تحدث في غياب آليات رقابية فعالة. إن سهولة تقديم الشكوى وتتبعها يمنح المواطن قوة أكبر لمواجهة أي ممارسات فساد، ويعزز من إحساسه بالعدالة والمساواة أمام الخدمات العمومية.
  3. إشراك المواطن في تقويم أداء الإدارة: تعتبر البوابة أداة لتعزيز قنوات التفاعل بين الإدارة والمواطن، حيث يصبح رأي المواطن أولوية ووسيلة لتقويم أداء الإدارة وتحسين جودة خدماتها. من خلال استقبال الملاحظات والاقتراحات، لا تقتصر البوابة على استقبال الشكاوى فقط، بل تمتد لتشمل تلقي المساهمات البناءة التي يمكن أن تسهم في تطوير الخدمات العمومية. هذا الإشراك الفعلي للمواطن يرسخ مبدأ الديمقراطية التشاركية ويجعل المواطن جزءاً لا يتجزأ من عملية الإصلاح الإداري.
  4. تحسين جودة الخدمات العمومية: إن الهدف من البوابة هو أن تصبح القناة الأكثر استخداماً من قبل المواطنين وأهم أداة للتفاعل وجسراً للتواصل البناء والمثمر. فمن خلال تحليل البيانات والمعلومات المستقاة من الشكايات (الإحصائيات)، يمكن للإدارة تحديد نقاط الضعف والعجز في خدماتها، وبالتالي اتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة. هذا التحليل الدوري يمكن أن يؤدي إلى تحسين مستمر في جودة الخدمات، يلبي تطلعات وانتظارات المواطنين.
  5. توفير الوقت والجهد وتبسيط الإجراءات: من بين الأهداف الأساسية للبوابة تسهيل عملية تقديم وتتبع الشكايات في أي مكان وزمان، مما يوفر الوقت والجهد على المواطنين. هذا التبسيط في الإجراءات يعكس التوجه العام نحو الإدارة الرقمية، ويساهم في تخفيف العبء على المرتفقين ويمنحهم “حرية التعبير والتواصل مع الإدارات والمؤسسات العمومية”.

ثانياً: الإطار القانوني والتنظيمي للبوابة كضامن للحكامة

تستمد البوابة الوطنية الموحدة للشكايات مصداقيتها وفعاليتها من خلال استنادها إلى إطار قانوني وتنظيمي محكم، يعزز من قيم الشفافية والمسؤولية في تدبير الشكايات، وبالتالي يسهم في تخليق الحياة العامة والمؤسسات العمومية. تتجلى هذه الأبعاد في النقاط التالية:

  1. المرجعية القانونية والتأسيسية: يُعد موقع chikaya.ma موجهاً لتقديم وتتبع الشكايات وفقاً للمرسوم 2.17.265، الذي يحدد كيفيات تلقي ملاحظات المرتفقين واقتراحاتهم وشكاياتهم وتتبعها ومعالجتها. هذا الاستناد إلى مرسوم حكومي يمنح البوابة شرعية وقوة تنفيذية، ويضمن أن عملية معالجة الشكايات تتم في إطار قانوني واضح، مما يقلل من هامش الاجتهاد الفردي أو التعسف ويدعم مبادئ الحكامة الرشيدة. كما أن خضوع الولوج إلى الموقع واستخدامه لـ “الشروط العامة” المفصلة وللقوانين المعمول بها في المملكة المغربية، يؤكد على الجدية والالتزام القانوني في إدارة هذه المنصة.
  2. حماية الملكية الفكرية وسلامة المحتوى: تخضع المعلومات والصور الموجودة في الموقع لحماية قانون المؤلف، مما يضمن صيانة الحقوق الفكرية للبوابة ويمنع الاستخدام أو النسخ أو التعديل غير القانوني لمحتواها. في المقابل، تشير الشروط القانونية إلى أن المعلومات والأفكار والتصورات والخبرة والتقنيات التي يتم تداولها من قبل المستخدمين تعد “غير سرية ولا تخضع لحماية قانون المؤلف”، ويمكن استخدامها وتداولها بحرية ودون قيود. هذا التمييز بين محتوى البوابة ومساهمات المستخدمين يعكس توازناً بين حماية الحقوق وتشجيع التفاعل وتبادل المعرفة، مع إلزام المستخدم بتقديم معلومات صحيحة لا تضر بمصالح الغير، وهو ما يعزز من أخلاقيات التواصل الرقمي.
  3. ضمان سرية البيانات الشخصية وحمايتها: تؤكد البوابة على احترام خصوصية المستخدمين من خلال السماح لهم بتصفح المحتوى دون كشف هويتهم أو أية معلومة ذات طابع شخصي. وعند طلب المعلومات الشخصية لمعالجة الشكايات، فإن ذلك يخضع لمقتضيات القانون رقم 08-09 الخاص بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي. هذا الالتزام القانوني بحماية البيانات الشخصية يعزز الثقة بين المواطن والإدارة، ويطمئن المستخدمين بأن معلوماتهم لن تستخدم إلا للغرض المعلن، مما يرسخ مبدأ الشفافية والمسؤولية في التعامل مع المعطيات الحساسة.
  4. شروط معالجة الشكاية والمسؤولية: تحدد البوابة شروطاً واضحة لمعالجة الشكاية، وهي: تقديمها وفق النموذج المعتمد، ووضوحها، وإرفاقها بالوثائق والحجج اللازمة، وذلك بناءً على المادة 11 من المرسوم 2.17.265. وفي حالة الإخلال بأحد هذه الشروط، يتم توجيه رد معلل للمرتفق داخل أجل خمسة عشر (15) يوماً من تاريخ التوصل بالشكاية. هذه الشروط تضمن جدية الشكايات وتحفز المواطن على تقديم معلومات دقيقة وموثقة، مما يساهم في تبسيط عملية المعالجة وزيادة فعاليتها. كما أن تحديد مسؤولية المستخدم وحده عن استخدام محتويات الموقع، وإعفاء الناشر من المسؤولية عن الضرر المباشر أو غير المباشر الناتج عن ذلك، يوضح الإطار القانوني للمسؤولية المشتركة.
  5. الجهات المستثناة وآلية “القوة القاهرة”: يحدد المرسوم 2.17.265 بعض الجهات المستثناة من تقديم الشكاية عبر البوابة الوطنية، مثل إدارة الدفاع الوطني والجماعات الترابية، التي تتبع آليات خاصة لتلقي الشكايات. هذا الاستثناء يعكس خصوصية بعض الإدارات ويتطلب تكامل الأنظمة لضمان شمولية معالجة الشكايات على المستوى الوطني. أما بند “القوة القاهرة”، فيعفي البوابة من تنفيذ التزاماتها كاملة في حال وقوع قوة قاهرة تعيق تنفيذ هذه الالتزامات. هذا التبصيل القانوني هو معيار متعارف عليه في إدارة الالتزامات التعاقدية، ويوفر إطاراً للتعامل مع الظروف الخارجة عن السيطرة، مع الحفاظ على التزام البوابة بتنفيذ مهامها بالكامل في الظروف العادية.

ثالثاً: التحديات والآفاق المستقبلية

على الرغم من الإيجابيات العديدة للبوابة، فإن تحقيق رؤيتها وأهدافها بشكل كامل يتطلب تجاوز بعض التحديات المحتملة، منها:

  • ضمان فعالية الاستجابة: يجب التأكد من أن الإدارات المعنية تستجيب للشكايات بفعالية وفي آجال معقولة، وأن الإجابات المقدمة تكون مقنعة وتقدم حلولاً حقيقية.
  • توعية المواطنين: يتطلب نجاح البوابة تعزيز الوعي بها لدى كافة شرائح المجتمع، خصوصاً في المناطق التي قد تفتقر إلى الثقافة الرقمية أو الوصول للإنترنت.
  • تكوين الموظفين: يجب تدريب الموظفين في الإدارات المعنية على كيفية التعامل مع الشكايات الواردة عبر البوابة بمهنية وفعالية.
  • تحليل البيانات واستثمارها: يجب استغلال الإحصائيات والبيانات التي توفرها البوابة بشكل فعال لتحليل الأسباب الجذرية للشكايات وتطوير السياسات والإجراءات الإدارية.

خاتمة:

تُعد البوابة الوطنية الموحدة للشكايات بالمغرب نموذجاً رائداً في مجال الحكامة الرقمية وتعزيز التخليق المؤسساتي. فمن خلال رؤيتها الطموحة وأهدافها الواضحة والخدمات التي تقدمها، إضافة إلى إطارها القانوني والتنظيمي المتين، فإنها تمثل جسراً حقيقياً للتواصل البناء بين الإدارة والمواطن، وتؤكد على أن رأي المواطن هو أولوية. إن نجاح هذه التجربة سيعتمد على استمرارية الالتزام بتطبيق هذه المبادئ، وتوفير الموارد الكافية لضمان فعالية الاستجابة وتطوير مستمر للخدمات، مما يجعلها جسراً حقيقياً للثقة بين الإدارة والمواطنين، ويعزز من ثقافة المساءلة ويضمن تحسين مستمر لجودة الخدمات العمومية، وبالتالي تحقيق التنمية الشاملة التي ينشدها المغرب.