وجهة نظر

بوعلام صنصال.. عندما يحاسب المثقف وتصمت المنظمات الدولية

في ظل تواتر الشهادات والنداءات والتقارير الدولية، التي ترسم صورة قاتمة عن واقع الحريات في الجزائر، تأتي إدانة الكاتب بوعلام صنصال بالسجن خمس سنوات لتضع المجتمع الحقوقي الدولي أمام مرآة صادمة: مرآة الصمت الانتقائي، واللامبالاة الموجّهة، وازدواجية المعايير في التعاطي مع انتهاكات حرية التعبير في دول الجنوب.

ما الذي يجعل قضية كاتب معروف، حظي بترجمات متعددة وجوائز دولية وسبق أن مثّل الجزائر في أكبر التظاهرات الثقافية العالمية، تمر مرورًا باهتًا في المحافل الحقوقية الدولية؟ لماذا لم تصدر المنظمات غير الحكومية الكبرى بيانات عاجلة، كما دأبت على ذلك في قضايا مشابهة؟ وهل باتت حرية التعبير نفسها خاضعة لنظام “التصنيف”، حيث يُنتصر لها في أماكن دون أخرى، ويُدافع عنها في دول “مرنة”، ويُسكت عنها في دول “منغلقة”؟

سياق القمع الممنهج وصنصال في قلبه

قضية بوعلام صنصال ليست استثناءً، بل تجسيد لحالة سياسية وقانونية تمتد عميقًا في البنية السلطوية الجزائرية.

فمنذ انحسار الحراك الشعبي، دخلت الجزائر مرحلة أكثر انغلاقًا على مستوى الحريات، تم فيها تفكيك التنظيمات المستقلة، وملاحقة النشطاء، وسجن الصحافيين، وسنّ قوانين غامضة تتوسع في تفسير “الإرهاب” و”المساس بالوحدة الوطنية” لتشمل كل تعبير نقدي أو موقف مستقل.

هذا السياق وثّقته عدة تقارير حقوقية على الصعيد الدولي:

– تقرير هيومن رايتس ووتش لسنة 2024، أشار إلى عشرات الحالات من الاعتقال والمضايقات ضد صحافيين وفنانين ومدونين، في ظل ما وصفه التقرير بـ”استغلال متزايد للترسانة القانونية من أجل خنق النقاش العام”.

– في 30 يناير 2025، أعربت ماري لولور، المقررة الأممية الخاصة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان، عن خيبة أملها العميقة إزاء مواصلة السلطات الجزائرية ممارساتها القمعية، وصرّحت في بلاغ صحافي بما يلي: “بعد أكثر من عام على زيارتي للجزائر، أشعر بخيبة أمل عميقة إزاء استمرار توقيف المدافعين عن حقوق الإنسان الذين يعملون في مجالات مختلفة، بمن فيهم أولئك الذين التقيت بهم، حيث لا يزالون يُعتقلون تعسفيًا، ويتعرضون للمضايقة القضائية، والترهيب، والتجريم، بسبب أنشطتهم السلمية، وذلك استنادًا إلى مواد قانونية غامضة مثل ’المساس بالأمن الوطني”.

هذا التصريح أيد من طرف كل من جينا روميرو، المقررة الأممية الخاصة المعنية بالحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، ومارغريت ساترويت المقررة الخاصة المعنية باستقلال القضاة والمحامين، ما زاد من ثقل التحذير الأممي، لكنه لم يُترجم إلى ضغط فعلي على السلطات الجزائرية، خصوصا من طرف المنظمات الدولية غير الحكومية.

منطق التراخي: حين يُكافأ الانغلاق بالإفلات

لا يمكن فهم هذا الصمت الحقوقي إلا ضمن ما يمكن تسميته بـ”منطق التراخي الاستراتيجي”، الذي يفترض – ضمنيًا – أن الدول المنغلقة، ذات الطابع السلطوي الصلب، لا تستجيب للضغط الحقوقي، وبالتالي لا جدوى من التركيز عليها، عكس الدول التي يُعتقد أنها قابلة للإصلاح، أو تُظهر مرونة تكتيكية في التعامل مع المجتمع الدولي.

هذا المنطق يُطبّق بحذافيره على حالة الجزائر، حيث يُبرَّر الصمت بعبارات من قبيل: “لا أمل سياسيًا”، أو “النظام لا يُبالي”، أو حتى “الضغط قد يأتي بنتائج عكسية”.

لكن هذا التبرير ينطوي على مفارقة أخلاقية خطيرة، إذا كان النظام منغلقًا، أفلا يكون الدفاع عن ضحاياه أكثر إلحاحًا؟ وإذا كان غير قابل للإصلاح، أفلا يستحق أن يُفضح أكثر لا أن يُسكت عنه؟

ما يحدث هو أن الدول السلطوية مثل الجزائر، تستفيد من تصنيفها كـ”حالة ميؤوس منها” لتُواصل القمع دون تكلفة دولية تُذكر. وهذا – في حد ذاته – يُعد مكافأة غير معلنة على الانغلاق، ويقوّض الإيمان بالعدالة الكونية.

حرية التعبير ليست رخصة “مشروطة”

في الحالة الجزائرية، لا يُمارس القمع فقط بأدوات الدولة، بل يُستتبع بمنظومة صمت دولية تكتفي بالمراقبة، أو توثّق الانتهاك دون أن تصرخ.

وما حدث يوم 7 مارس 2025 في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، حين نظّمت كل من منظمة “منّا لحقوق الإنسان”، ومعهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، وهيومن رايتس ووتش، ومنظمة المادة 19، ندوة موازية حول تآكل الفضاء المدني في الجزائر، لم يكن كافيًا لكسر جدار اللامبالاة، رغم توافق المناسبة مع عرض تقرير المقررة الأممية الخاصة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان بشأن زيارتها للجزائر سنة 2024.

بل إن رسالة مشتركة وجهتها هذه المنظمات في مارس نفسه إلى مجلس حقوق الإنسان، وجاء فيها: “إن السلطات الجزائرية تواصل قمع الحيز المدني، من خلال اعتقالات تعسفية وملاحقات سياسية، وتضييق ممنهج على الحريات، مما خلق مناخًا من الخوف والرقابة”، لم تجد طريقها إلى العناوين الكبرى أو ترجمت لتضامن حقوقي دولي مع بوعلام صنصال، ولا إلى شبكات التضامن التي اعتادت أن تُتحرك حين يتعلق الأمر بدول أكثر انفتاحًا.

صنصال ليس وحده ونحن لسنا بمنأى

بوعلام صنصال ليس فقط كاتبًا مبدعًا. هو ضمير نقدي يُمارس حقه في التفكير بصوت عالٍ.

وإدانته بهذا الشكل القاسي تُعد إدانة للحق في الحكي، في الرواية، في صياغة الذاكرة والهوية.

وإذا مرّت هذه الإدانة دون مقاومة، فإننا نكرّس سابقة تقول: “إن للمثقف حدودًا لا يجب تجاوزها، وإن للمفكر جدرانًا لا يُسمح له بتسلقها”. إن التضامن مع صنصال اليوم، ليس فقط تضامنًا مع شخص، بل مع حق الكلمة في أن تُقال، وحق السؤال في أن يُطرح، وحق الوطن في أن يُنتقَد.

إن لم تكن حرية التعبير مبدأ، فهي مجرد امتياز يُمنح ويُسحب حسب الظرف.

وإن لم يُدافع عنها بنفس الحدة في الجزائر كما في أي دولة أخرى، فإن النظام الحقوقي الدولي يفقد إحدى ركائزه الأساسية: الكونية واللاانتقائية.

إن المنظمات الحقوقية الدولية مثل هيومن رايتس ووتش وأمنيستي وغيرها، مطالبة بالأساس اليوم بأن تقول كلمتها في وجه هذا الانحراف. لأن الصمت ليس حيادًا. ولأن من يُدين صنصال اليوم، قد يُدين غدًا كل من يشبهه، وكل من يُفكر، وكل من يكتب.

* صحافي وباحث في مجال حقوق الإنسان