منتدى العمق

احتجاجات آيت بوكماز .. من صوت الجبل إلى سؤال الدولة

في زمن تتسارع فيه التحولات البيئية والاجتماعية والرقمية، لم تعد الاحتجاجات المنبثقة من الهامش الجغرافي والاجتماعي مجرد ردود أفعال عفوية أو حوادث معزولة، بل أصبحت بمثابة مؤشرات بنيوية على عمق اختلالات مستفحلة تُهدد رصيد العدالة المجالية، وتضع السلم الاجتماعي على محكّ حقيقي. وفي هذا السياق، شهدت منطقة آيت بوكماز، الواقعة في قلب الأطلس الكبير، خروجًا سلميًا ومنظمًا لسكانها، رافعين مطالب أساسية تمس الحق في الحياة الكريمة: الولوج إلى الماء، والربط بالإنترنت، وتحسين البنية التحتية، وضمان الرعاية الصحية.

غير أن هذا الحراك المحلي، الذي عبّر عن طموحات واقعية ومشروعة، لم يسلم من التأويلات السياسوية، حيث سعت بعض الأصوات إلى تأطيره ضمن منطق “المؤامرة” وربطه بأجندات خارجية، في محاولة لتقويض شرعيته الرمزية والاجتماعية. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل نحن أمام تعبير اجتماعي صادق يكشف حدود النموذج التنموي المحلي وفشله في تلبية الحاجيات الأساسية للمجالات الهامشية؟ أم أننا بصدد إعادة إنتاج فوبيا سياسية تقليدية ترى في كل احتجاج تهديدًا ضمنيًا للنظام والاستقرار؟

هذه الأسئلة لا تُطرح من باب الترف النظري، بل تشكّل مدخلًا حيويًا لإعادة التفكير في علاقة الدولة بالمجال، وفي تموقع المواطن داخل السياسات العمومية، وفي طبيعة التفاعل بين الحاجة والكرامة داخل المشروع التنموي الوطني.

1- مشروعية المطالب: من الحق الدستوري إلى نداء الكرامة

إن ما يميز احتجاجات آيت بوكماز ليس فقط توقيتها ولا موقعها الجغرافي في عمق الأطلس الكبير، بل طابعها الرمزي الذي يعكس عمق الشعور بالتهميش وغياب الإنصاف المجالي. فالساكنة التي خرجت للاحتجاج لا تطالب بمزايا استثنائية ولا بحقوق فئوية، بل تسعى إلى تفعيل الحد الأدنى من الحقوق التي يكفلها الدستور المغربي نفسه، لا سيما في الفصل 31، الذي يُلزم الدولة ومؤسساتها بتعبئة الوسائل الكفيلة بضمان الولوج المتكافئ إلى الخدمات الأساسية كالعلاج، والتعليم، والماء، والبيئة السليمة، والشغل، والسكن.

وبالنظر إلى المعطيات الميدانية، يتضح أن آيت بوكماز تعاني من عزلة خانقة على مستويات متعددة: بنية طرقية متهالكة، خدمات صحية شبه منعدمة، خصاص مائي مقلق في ظل تفاقم التغيرات المناخية، وتغطية رقمية محدودة تجعل من الرقمنة مجرد شعار دون مضمون فعلي. هذه المؤشرات لا تعكس فقط تأخرًا تنمويًا، بل تُجسد إخلالًا بالتعاقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، وهو ما يجعل الاحتجاج فعلًا ضروريًا، بل مشروعًا من الناحية القانونية والأخلاقية.

الأهم من ذلك، أن الشكل السلمي والمضبوط الذي اتخذته هذه الاحتجاجات – رفع الراية الوطنية، وصور الملك، وانضباط الخطاب – يُفنّد كل ادعاء يُحاول نزع الشرعية عنها أو توصيفها كحراك عدمي أو موجه خارجيًا. إن الساكنة لم تخرج ضد الوطن، بل خرجت من داخله، بحثًا عن مكان مستحق ضمن خريطة المواطنة والإنصاف. لذلك، فإن محاولات تحريف هذا الفعل الاحتجاجي عن طبيعته الاجتماعية تُعد نوعًا من الهروب إلى الأمام، وتعبيرًا عن عجز عميق في قراءة نبض الهامش وفهم أولوياته.

إن مشروعية المطالب في هذا السياق لا تُقاس فقط بمدى دستوريتها، بل أيضًا بمدى تعبيرها عن الحاجة الإنسانية الملحة إلى الكرامة، وهي كرامة لا تستقيم دون بنية تنموية عادلة تُعيد الاعتبار للمجالات التي طالها التهميش لعقود، وأُقصيت من أجندات الاستثمار العمومي والتخطيط الترابي المندمج.

2- التحديات البنيوية: بين هشاشة المؤسسات وتصلب الذهنيات

رغم عدالة المطالب التي رفعتها ساكنة آيت بوكماز وبساطتها الظاهرة، فإن الاستجابة لها تصطدم بجدار من التحديات البنيوية العميقة، التي لا تتعلق فقط بالموارد أو الإمكانات، بل تشمل بنية القرار المحلي، ونموذج الحكامة، وحتى تمثلات الدولة لذاتها ولعلاقتها بالمواطن.

أول هذه التحديات يكمن في الهشاشة المؤسساتية للجماعات الترابية، التي تُعتبر الفاعل الأول في التنمية المحلية، لكنها في واقع الأمر، تشتغل في ظل ضعف مزمن على مستوى الموارد المالية، والكوادر البشرية المؤهلة، وغياب الاستقلالية الفعلية في اتخاذ القرار. وتعتمد معظم الجماعات الجبلية، كآيت بوكماز، بشكل شبه كامل على التحويلات المركزية، دون تمكينها من آليات تدبير ذاتي مرن، وهو ما يُفرغ مبدأ الجهوية المتقدمة من مضمونه العملي.

التحدي الثاني يرتبط بـاستمرار العقليات المركزية المتصلّبة، التي ما زالت تتعامل مع الاحتجاج كعلامة تهديد لا كمؤشر إنذار. لا تزال الذهنية الأمنية تَغلُب على المقاربة التنموية في كثير من السياقات، ما يجعل من أي حركة احتجاجية سلمية – مهما كانت مبرراتها – موضعَ شبهة، فتُواجَه بالتخوين والتأويلات المؤامراتية. إن ردود الفعل السريعة التي ربطت احتجاجات آيت بوكماز بـ”أجندات خارجية” تعكس هشاشة في منظومة التأويل، وغيابًا لنضج سياسي يُميز بين المطالبة بالحق وتقويض الاستقرار.

أما التحدي الثالث، فهو غياب آليات الإنصات المؤسساتي والتشاركية الفعلية. فرغم ما تنص عليه النصوص القانونية من دعوات لإشراك المواطن في بلورة القرار العمومي، إلا أن الواقع يُظهر فجوة عميقة بين الدولة والمجتمع، تُجسّدها سياسات تُسقَط من أعلى، دون استيعاب حقيقي لحاجيات السكان المحليين ولا احترام لتفاصيل السياق الجغرافي والثقافي. وغالبًا ما تغيب مؤسسات الوساطة – أحزاب، ومجالس منتخبة، وجمعيات – عن المشهد اليومي للمواطن، ما يُضعف ثقة الناس بها، ويدفعهم إلى التعبير المباشر عبر الشارع.

إن هذه التحديات لا تعكس فقط أزمة إدارة أو اختلالات ظرفية، بل تشير إلى عطب هيكلي في صلب النموذج التنموي المحلي، حيث تتقاطع المركزية الشديدة مع ضعف القدرة على التخطيط التشاركي، فيُعاد إنتاج نفس الفجوات التنموية، بنفس الأدوات البيروقراطية، ونفس الذهنيات المتوجسة من التغيير.

3- نحو حلول عقلانية ومستدامة: من التفاعل الظرفي إلى العدالة المجالية البنيوية

إن التعامل مع احتجاجات آيت بوكماز – وأمثالها من الحركات الاجتماعية الناشئة في الهوامش – ينبغي أن يتجاوز منطق التهدئة الظرفية، ليترسخ ضمن مقاربة تنموية جديدة تضع المواطن في قلب المعادلة، وتُعيد الاعتبار لمفهوم العدالة المجالية كركيزة مركزية لأي مشروع تنموي وطني.

أول مدخل للإصلاح يتمثل في تبني مقاربة تشاركية حقيقية، تنبني على الإنصات الممنهج للساكنة، لا بوصفهم “مستفيدين” من الدولة، بل باعتبارهم شركاء فاعلين في بلورة أولويات التنمية، وتصميم السياسات، ومراقبة تنفيذها. وهذا لا يتحقق إلا عبر تفعيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بالديمقراطية التشاركية، وتوسيع نطاق المشاورات المجالية، وتحفيز المبادرات المحلية، بدل الاكتفاء بتدبير عمودي مفصول عن الواقع المُعاش.

ثانيًا، تبرز الحاجة إلى تمكين الجماعات الترابية من صلاحيات فعلية، مقرونة بموارد مالية قادرة على الاستجابة للحاجات الملحة، وعلى رأسها الماء، والبنية التحتية، والربط الرقمي. إن الجهوية المتقدمة لا يمكن أن تبقى مجرد شعار مؤسساتي ما لم تُترجم إلى نقل ملموس للسلطة والوسائل، ضمن منطق تعاقدي واضح بين المركز والجهات.

أما على المستوى الإجرائي، فإن إعداد مخطط وطني استعجالي للمناطق الجبلية لم يعد خيارًا، بل ضرورة تنموية وأمنية في آن. هذا المخطط يجب أن يدمج الأبعاد البيئية، والاجتماعية، والتكنولوجية، ويعتمد حلولًا مستدامة ومرنة، مثل:

⦁ حفر الآبار وتجهيز الخزانات الجماعية.
⦁ تعميم تقنيات تحلية المياه أو إعادة استخدامها في المناطق المتضررة من الجفاف.
⦁ الاستثمار في الطاقة الشمسية لدعم ضخ المياه وتشغيل التجهيزات الأساسية.
⦁ توسيع شبكة الإنترنت القروي، كرافعة للتعليم، والتكوين، والخدمات الإدارية.

كما لا بد من إعادة النظر في الخطاب السياسي والإعلامي الموجَّه للهامش، من خلال القطع مع منطق التخوين والوصم، وتبني خطاب يحترم وعي الساكنة، ويُثمّن نضالها السلمي من أجل الكرامة والعيش الكريم. إن التحدي لا يكمن فقط في الاستجابة التقنية للمطالب، بل في استعادة الثقة بين الدولة والمواطن، وهي ثقة لا تُبنى بالشعارات، بل بالعدالة، والمصداقية، والإنصات الفعّال الذي يبني ولا يُبخس.

أخيرًا، فإن أولوية التنمية المجالية لا ينبغي أن تُفهم بوصفها انكفاءً داخليًا، بل باعتبارها شرطًا للمصداقية الخارجية. فبلد لا ينجح في تمكين ساكنته من الماء والدواء والاتصال، لا يستطيع أن يُقدّم نفسه نموذجًا للديمقراطية أو للاستقرار. ومن هنا، يصبح شعار “تازة قبل غزة” ليس تعبيرًا عن الانغلاق، بل تأكيدًا على أن الكرامة تبدأ من الداخل، ومن لا يملكها داخل حدوده، يصعب عليه أن يُناصرها خارجها.

ختاما .. إن احتجاجات آيت بوكماز لم تكن مجرد ردة فعل عابرة، بل لحظة كاشفة لإخفاقات التنمية المجالية، ورسالة قوية بلغة وطنية راقية تطالب بالكرامة لا بالامتيازات. الجبل تكلّم، وعلى الدولة أن تُنصت بوعي، لا بردود أفعال مؤقتة.

لن يُقاس النموذج التنموي بوعوده الكبرى، بل بقدرته على الوصول إلى المناطق المنسية، حيث تتقاطع الحاجات الأساسية مع صمت المؤسسات. فالمواطن ليس خصمًا، بل شريك يطلب الاعتراف والإنصاف، والاحتجاج ليس تهديدًا، بل دعوة لإصلاح العلاقة المختلّة بين المركز والهامش.

وفي النهاية، لا يمكن لوطن أن ينهض بنصفه، ويُهمّش نصفه الآخر. فالدولة القوية هي التي تبني وحدتها من الإنصات، لا من الإنذار؛ ومن الإنصاف، لا من الإنكار.