مع نهاية سنة 2025، تتكشّف على السطح مؤشرات أزمة اقتصادية متفاقمة في المغرب، أبرزها الرقم الصادم: إفلاس أكثر من 40 ألف مقاولة صغرى. خلف هذا الرقم الجافّ، تختبئ حكايات يأس وفشل وانكسار، تتجاوز الأبعاد الاقتصادية إلى المساس بثقة المستثمرين والمواطنين على السواء. والمفارقة الأكثر مدعاة للتساؤل أن هذا الانهيار يحدث وسط صمت رسمي يكاد يكون مطبقًا، وغياب أي مراجعة جذرية من حكومةٍ وُعدنا بأنها جاءت لتعطي دفعة قوية للاقتصاد الوطني. فهل نحن أمام أزمة ظرفية عابرة، أم أمام أزمة رؤية أعمق تقوض مقومات النموذج التنموي برمّته؟
* من أزمة مالية إلى أزمة بنيوية: أين الخلل؟
حين تنهار عشرات الآلاف من المقاولات الصغيرة في غضون ثلاث سنوات فقط، فالأمر يتجاوز إخفاقات فردية أو سوء تدبير بسيط. ما يطفو هنا هو سؤال بنيوي أعمق: إلى أي حد تعكس هذه الانهيارات هشاشة في السياسات العمومية، وخللًا في التوازن بين أولويات الدولة وأدوار الفاعلين الاقتصاديين؟ ذلك أن المقاولة الصغرى ليست مجرّد وحدة إنتاجية معزولة، بل تمثل شريانًا حيويًا للاقتصاد الوطني، بوصفها رافعة للتشغيل الذاتي، وآلية لخلق الثروة محليًا، ومحركًا للدورة الاقتصادية في محيطها المباشر.
مع ذلك، يبدو أن اختيارات الدولة انحازت، وعيًا أو لا وعيًا، إلى رعاية الاستثمار الكبير والمشاريع الضخمة، بينما تُركت المقاولات الصغرى لتواجه وحدها ضغوطًا ضريبية خانقة، وبيروقراطية معيقة، وشحًّا في السيولة، وغيابًا لأي مواكبة حقيقية. ألا يفرض علينا هذا الواقع مساءلة مدى نجاعة الأولويات التي حكمت السياسات الاقتصادية في العقد الأخير؟
* حكومة الفرص الضائعة: الوعود المتبخرة
لقد جاءت حكومة عزيز أخنوش في ظرف تاريخي مواتٍ، حاملة وعودًا بإعادة رسم الخريطة الاقتصادية للبلاد، مدعومة بشعارات طموحة وبرامج مثل «انطلاقة» و«فرصة» التي قُدّمت بوصفها رافعات حقيقية للنهوض بالمبادرات الحرة. لكن سرعان ما تحوّلت هذه البرامج إلى عناوين جوفاء، أعاقتها مساطر معقدة وتأخر التمويلات وغياب التتبع الفعال. فلماذا فشلت هذه المبادرات في ترجمة وعودها إلى نتائج ملموسة؟ ولماذا استمر الحلم المقاولاتي ينتهي في قاعات المحاكم التجارية بدل أن يتحقق في أسواق الشغل والاستثمار؟
أمام هذا الواقع، لم يعد المقاول الشاب يبحث عن فرصة للنمو، بل بات ينشد فقط وسيلة للنجاة. كما لم تعد المبادرة الحرة رهانًا للمستقبل، وإنما تحوّلت إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر. فهل نحن أمام فشل تقني صرف، أم أمام تجلٍّ لأزمة أعمق في الحكامة الاقتصادية؟
* الفساد وغياب الرؤية: مأزق النموذج السياسي الاقتصادي
لا يمكن فصل ما يحدث في الاقتصاد عن المناخ السياسي العام. إذ إن الفساد المستشري في صفوف بعض المسؤولين والمؤسسات السياسية، والزّبونية، وتضارب المصالح، كلها عوامل أساسية أسهمت في تبديد موارد كان يمكن أن تُوظف لتقوية مناعة النسيج المقاولاتي. وفي غياب رؤية وطنية شاملة تمتلك الجرأة والواقعية، بقي المغرب رهينة قرارات ظرفية، ومشاريع متفرقة، وأجندات انتخابية قصيرة الأمد. فإلى أي مدى ساهم هذا الإطار السياسي المشوَّه في تغذية الأزمة بدل احتوائها؟ وكيف يمكن استعادة الثقة في مشروع تنموي يضع الإنسان والمبادرة الحرة في قلب معادلة السياسات العمومية؟
* مغاربة العالم: غِيرة وطنيّة ورغبة في التغيير
من مواقعهم في الخارج، يتابع مغاربة العالم هذه التحولات بكثير من القلق والحسرة، حاملين حلمًا بوطن مزدهر، عادل، يُحفّز طاقاته ويصون كرامة شبابه. ليس النقد الموجه من الخارج إلا تعبيرًا عن غيرة وطنية صادقة، وإيمانًا بأن التغيير ممكن إذا ما توفرت إرادة حقيقية، وربطت المسؤولية بالمحاسبة، وأُعطيت الأولوية للكفاءة بدل الولاء والريع. لكن كيف يمكن تحويل هذا الحلم إلى مشروع جماعي يستقطب الجميع بدل أن يظل حبيس الشعارات؟
* الأرقام كجرس إنذار: أسئلة عن المستقبل
رقم 40 ألف حالة إفلاس ليس مجرد معطى في نشرة إخبارية، بل مؤشر هيكلي على مأزق اقتصادي واجتماعي متفاقم. فهو يعني تراجعًا في فرص الشغل، وانكماشًا في الدورة الاقتصادية المحلية، وفقدانًا للثقة في مناخ الأعمال، وتضخمًا في القطاع غير المهيكل. أليست هذه كلها إشارات إلى أن النموذج القائم بلغ حدوده؟ وكيف يمكن إعادة الاعتبار للقواعد المنتجة في الاقتصاد قبل أن نفقد توازننا تمامًا؟
نحو مصالحة مع المقاولة الصغرى: مقترحات أولية
إن إنقاذ الاقتصاد الوطني لا يحتاج إلى حلول ترقيعية أو شعارات موسمية، بل إلى إستراتيجية متكاملة تتأسس على المصالحة مع ثقافة المقاولة الصغرى عبر:
• تخفيف الضغط الضريبي والإداري عنها.
• فتح الأسواق العمومية أمامها بنسب عادلة.
• تبسيط الولوج إلى التمويل والتكوين دون بيروقراطية خانقة.
• توفير مواكبة تقنية مستمرة على طول دورة حياتها وليس فقط لحظة التأسيس.
إن إعادة الثقة في الاقتصاد الوطني تبدأ من مواجهة هذه الأسئلة بشفافية وجرأة، بعيدًا عن التسويف والوعود الجوفاء، وبإرادة سياسية تعيد الاعتبار لما تبقى من أمل في نفوس مواطنيه.
إن أزمة إفلاس المقاولات الصغرى في المغرب تكشف بما لا يدع مجالاً للشك عن عمق الاختلالات البنيوية التي تعتري النموذج الاقتصادي الوطني، وعن حدود الرهانات الظرفية والشعاراتية في التعاطي مع قضايا التشغيل والتنمية. فهي ليست مجرد معضلة تقنية أو مالية، بل تعبير عن مأزق سياسي واقتصادي تتشابك فيه مظاهر الفساد وضعف الحكامة وغياب الرؤية الشمولية.
من ثمة؛ فإن أي محاولة للإصلاح لا يمكن أن تنجح ما لم تُبْنَ على إرادة سياسية صادقة، تعيد الاعتبار للإنسان والمبادرة الحرة، وتقطع مع منطق الريع والزّبونية. إن مصالحة الدولة مع المقاولة الصغرى، بوصفها فاعلًا مركزيًا في التنمية، تظل المدخل الضروري لإعادة التوازن إلى النموذج التنموي المغربي، وتجديد الثقة بين المواطن والدولة.
* والخلاصة:
ويبقى السؤال الإشكالي المفتوح: كيف يمكن تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لتأسيس نموذج بديل، أكثر عدالة وفعالية، يحقق التنمية ويصون الكرامة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين؟ هل يمتلك الفاعل السياسي اليوم ما يكفي من الإرادة والشجاعة لتبني نموذج اقتصادي جديد، يضع الإنسان والمبادرة الحرة في صميم أولوياته؟ أم أن الصمت الرسمي والجمود المؤسساتي سيبقيان سيدَي الموقف حتى إشعار آخر؟