اقتصاد

الملك محمد السادس .. وريث “معركة الماء” ومؤسس الجيل الجديد من السدود

يعيش المغرب منذ مطلع القرن الحالي على وقع تحديات مائية متزايدة، بفعل التغيرات المناخية، وتراجع التساقطات، وتنامي الحاجيات السوسيو-اقتصادية. وفي مواجهة هذه التحديات، تبنت الدولة المغربية، تحت قيادة الملك محمد السادس، سياسة مائية طموحة، ترتكز في شقها المركزي على بناء السدود، باعتبارها أداة استراتيجية لتأمين الموارد المائية وتحقيق السيادة المائية والتنمية المستدامة.

وانطلقت السياسة الوطنية لبناء السدود مع بداية استقلال المغرب، بإرادة قوية من الملك الراحل الحسن الثاني، الذي جعل من “معركة الماء” أولوية وطنية، مما مكن البلاد من تعبئة أول مليار متر مكعب من المياه، وتأسيس شبكة متطورة من السدود الكبرى. ومع اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999، شهدت هذه السياسة نقلة نوعية، من خلال توسيع نطاقها وتعزيز بعدها الاستراتيجي، بهدف ضمان الأمن المائي الوطني، ومواكبة التحولات البيئية والاقتصادية والاجتماعية.

ووفقا لمعطيات رسمية حصلت عليها جريدة “العمق”، فقد تم إنجاز 61 سدا كبيرا بسعة تقدر بـ 6.354 مليار متر مكعب، بالإضافة إلى 14 سدا كبيرا آخر في طور الإنجاز بسعة 4.80 مليار متر مكعب، و7 سدود مبرمجة بسعة 3.36 مليار متر مكعب. ومن شأن هذه المشاريع أن ترفع السعة التخزينية الإجمالية إلى 14.551 مليار متر مكعب.

ولا يقتصر دور هذه السدود على تعبئة الموارد المائية فحسب، بل تمتد لتشمل تزويد السكان بالماء الصالح للشرب، وسقي الأراضي الفلاحية، وحماية المناطق من الفيضانات. وتجسد هذه المقاربة رؤية ملكية واضحة لضمان الأمن المائي للأجيال الحالية والمستقبلية، من خلال تنويع مصادر المياه، وتوسيع شبكة السدود، وتعزيز مشاريع إعادة استعمال المياه العادمة المعالجة، وتحلية مياه البحر، وترشيد الاستهلاك.

رؤية ملكية متكاملة لتدبير المياه

أكد أحمد صدقي، الخبير في البيئة والتغيرات المناخية والبرلماني السابق، أن المغرب في عهد الملك محمد السادس واصل سياسة بناء السدود كجواب استراتيجي لأزمات وإشكالات الماء التي تعرفها بلادنا، مضيفا: “في العهد الجديد، اتسمت هذه السياسة بتطور نوعي نتيجة الإشراف المباشر لعاهل البلاد على هذا الملف وإعطائه نفسا جديدا”، مشيرا إلى البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، بتكلفة تناهز 115 مليار درهم.

وأوضح صدقي في حديث مع “العمق”، أن “إجمالي السعة المنجزة والمبرمجة في هذه المرحلة تقارب ثلاثة أرباع السعة الإجمالية التي حققتها بلادنا في مجال السدود لحد الآن، كما تضاعفت الاستثمارات المرصودة للسياسة المائية”. وقد مكّن هذا المجهود المغرب وفق تعبيره، من “الصمود أمام موجات عاتية ومتكررة من الجفاف تحت وطأة إرهاصات التغير المناخي الجدية والظواهر المناخية القصوى”.

على الرغم من هذه الجهود الجبارة، أقر الخبير أحمد صدقي أن التحديات لا تزال قائمة وقوية، وأن “الخطر الاستراتيجي المرتبط بالأمن المائي أصبح داهما”. ويعزى ذلك إلى التهاوي المرتقب لمؤشر حصة كل مغربي من الماء، والتي يتوقع أن تقل عن 700 متر مكعب بحلول عام 2025 بعد أن كانت تفوق 3000 متر مكعب في بداية الستينيات. هذا بالإضافة إلى تزايد الطلب على الماء بفعل التطور الاجتماعي والديموغرافي، وتنامي الأنشطة السوسيو-اقتصادية، وتصاعد أشكال وسلوكات هدر وتبديد المياه.

تعزيز البدائل المائية

شدد البرلماني السابق على ضرورة “المرور إلى وتيرة أكبر في التعاطي مع الخيارات غير التقليدية، وعلى رأسها خيار تحلية المياه وإيجاد حلول إضافية للإكراهات والإشكالات التي تطرحها هذه الخيارات”، داعيا إلى “التعاطي بحزم وجدية مع تفعيل الخيارات المؤسساتية والتشريعية في إيقاف نزيف المياه الذي تشهده بعض القطاعات الاقتصادية، وذلك بالتفعيل الصارم للترسانة القانونية الوطنية، خصوصًا مقتضيات قانون الماء 36-15 وقانون التقييم البيئي 49-17، مع تفعيل أدوار مختلف المؤسسات ذات العلاقة بحسن تدبير الماء وصولًا إلى المستويات المحلية”.

كما أكد على أن السدود “لا تزال تمثل خيارا حقيقيا وأساسيا لبلادنا، فهي السياسة التي راكمت فيها بلادنا الشيء الكثير ولا تزال تتوفر مكامن كبيرة وعديدة علاقة بتعبئة المياه خصوصا بواسطة السدود المتوسطة والصغرى التي لا تزال راهنيتها كبيرة”، مبرزا أن هذه الخيارات الأخرى غير التقليدية تأتي “بالموازاة داعمة ومساعدة في مواجهة سيناريوهات المستقبل التي تؤكد مختلف المعطيات على صعوبتها، وذلك في إطار جعل المزاوجة بين كل هذه المقاربات خيارا استراتيجيا لبلادنا”.

دعامة اقتصادية وتنموية

من جهته، أبرز الخبير الاقتصادي أمين سامي أن سياسة بناء السدود الكبرى التي أطلقها الملك محمد السادس منذ سنة 1999 تعد أضخم استثمار بنيوي في الموارد المائية بالمغرب خلال ربع قرن، حيث بلغت الحصيلة إلى منتصف سنة 2025 نحو 154 سدا كبيرا بطاقة إجمالية تقارب 20.7 مليار متر مكعب، إضافة إلى أكثر من 160 سدا صغيرا مبرمجا قبل سنة 2028، بهدف رفع السعة الإجمالية إلى حوالي 25 مليار متر مكعب.

وسجل سامي في تصريحه لجريدة “العمق” أن نسبة الملء الفعلية تراوحت سنة 2025 بين 34% و36% نتيجة توالي ست سنوات من الجفاف، لكنه شدد على أن هذه السدود لعبت دورا محوريا في خلق قيمة اقتصادية نوعية، من خلال تأمين المياه للفلاحة المروية، التي تمثل أكثر من ثلث الناتج الفلاحي الوطني، وتغذي أزيد من 45% من صادرات المواد الغذائية.

كما أشار إلى أن هذه السياسة مكّنت من دعم إنتاج الطاقة الكهرمائية، وضمان تزويد المدن الكبرى والمناطق الصناعية بالماء، مما عزز جاذبية الاستثمار، وساهم في استقرار سلاسل الإنتاج في قطاعات مثل السيارات والفوسفات والصناعات الغذائية، إلى جانب تحسين تصنيف مخاطر البلد لدى وكالات التصنيف الدولية.

رافعة اجتماعية محلية

وأضاف سامي أن مشاريع السدود كان لها وقع إيجابي على المناطق القروية، من خلال تثبيت ما بين 3 إلى 4 ملايين نسمة، وتوسيع نطاق الربط بالماء والكهرباء، وفك العزلة عبر البنية التحتية الطرقية، مما أدى إلى بروز سياحة البحيرات في مناطق مثل خنيفرة والحسيمة، وتحقيق ارتفاع في دخل الفلاح الصغير بنسبة تتراوح بين 30% و40% في بعض الأحواض.

لكنه نبه في الوقت ذاته إلى أن السنوات الأخيرة أظهرت هشاشة النموذج التقليدي القائم على السدود في ظل تغير المناخ، مما يفرض -حسب قوله- “التحول نحو منظومة أكثر مرونة تشمل التحلية، إعادة استعمال المياه العادمة، وإدارة أكثر صرامة للطلب”، مشددا على ضرورة العمل أكثر على إعادة هندسة المنظومة المائية، من خلال الدمج بين التخزين السطحي، والتحلية، والحلول الذكية لإدارة الموارد، مع اعتماد أدوات اقتصادية جديدة مثل تسعير الماء حسب الكفاءة، وتعزيز أسواق حقوق الماء.