وجهة نظر

إصلاح السياسة بالمحاسبة وهزم الاغتناء غير المشروع

نزاهة الانتخابات ليست مجرد إجراءات تقنية

حفل صيفنا لهذه السنة بكثير من الهزات التي أصابت مؤسستنا الحكومية في حقيقة فعلها على الواقع . حدث قبل هذا الصيف أن تغنى كثير من اقطاب و وزراء و برلمانيو الأغلبية بمنجزات لم يروها إلا وحدهم دون المغاربة في غالبيتهم. وصل الحد بكثير من هؤلاء الأغلبيين إلى فرض نصوص قانونية تضرب في العمق مبادئ دستورية في المجال القانوني سواء تعلق الأمر بالمساطر المدنية و الجنائية. و وصل الأمر إلى استهجان كل الأصوات المنادية بمحاربة الفساد في اوجهه المتعلقة بتضارب المصالح، و بالرشوة، و باستغلال النفوذ، و بكل ما يتعلق بالاغتناء غير المشروع. و بلغ الأمر بالأغلبية إلى درجة السكوت المدوي عن كثير من الهفوات ، و عن كثير من القضايا التي تورط فيها مسؤولون من كافة الأحزاب الممثلة في البرلمان. سكتت القيادات عن أخطاء في التدبير، وفي الوفاء بالوعود، و في الحفاظ على الأمانة، و كذلك في الترفع عن الرغبة في إستغلال المناصب. و غاب الكثير من المنتخبين عن تنزيل السياسات التي قيل أنها ستحد من التفاوتات الإجتماعية و المجالية. و اكتفوا بالتصويت ، و التصفيق ، و قبول كل شروط سيطرة أصحاب المصالح الإقتصادية التي تحتاج إلى القرار السياسي من خلال السيطرة عليه. و هكذا سيطر الفراقشية على الخروف، و البنزين، و تصدير منتوجات البلاد الفلاحية، و على تدبير العقار العمومي. و إنتهى بهم المسار إلى التشكيك في حقيقة صعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية في مجالات الصحة و التعليم و الولوج إلى الماء و الكهرباء. لا يهمهم تدهور الميزان التجاري المتعلق بالمواد الغذائية. و لا يهمهم الميزان التجاري و عجزه المرتبط بمواد يتم استيرادها لتلبية حاجيات علية القوم. تدل الأرقام على أن الأمر يتعلق بعشرات المليارات من الدراهم. و هنا يتدخل مغاربة العالم لسد العجز التجاري عبر الحساب الجاري لميزان المدفوعات. الأمر كبير و يتعلق بتدفقات مالية تتجاوز 100 مليار درهم، بالإضافة إلى مداخيل السياحة، و مداخيل فائض ميزان الإستثمار.

اجتمع وزير الداخلية مع الأحزاب لزرع الثقة ،من جديد، في العملية الانتخابية. حضرت الوعود، و حضر الإلحاح على الضمانات التي يمكن أن تعطى للمواطن أولا، قبل أن تعطى للأحزاب. يتطلب تنظيم الانتخابات المقبلة تنظيف الساحة السياسية من الشوائب التي علقت بها منذ 1963. توجهت نخبة ممن غابوا عن ساحة مقاومة المستعمر إلى التحالف مع ضباط فرنسا و إسبانيا من المغاربة. حاولت ” جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ” ( الفديك)، مسح جزء من المغاربة الذين صنعوا ، إلى جانب محمد الخامس، صفحات من النضال الوطني ضد الإستعمار، و في غياب من خرجوا من جحورهم بعد أن رجع محمد الخامس، و خرج الشعب عن بكرة أبيه لتسجيل إنتصار صنعته المقاومة و صمود السلطان أمام غدر المستعمر. و ظل أسلوب جبهة ” الفديك” يتطور و يتغير اسلوبه ليعيد إنتاج أساليب سلعنة السياسة و منع التغيير، و إدخال غير المؤهلين سياسيا إلى ميدان مواجهة الوطنيين. و ظل الصراع يحسم لصالح من كانوا في صف الغياب، و ضد من خبروا النضال ضد المستعمر. و هؤلاء مناضلون اختاروا حزب الاستقلال، و حزب الشورى و الاستقلال و الحزب الشيوعي المغربي. و مناضلون اختاروا الانضواء تحت لواء الحركة الشعبية.

قرر العهد الجديد إحداث قطيعة مع أسباب و مسببات الاحتقان السياسي و الحقوقي، فكانت فترة التصالح مع الماضي فرصة للقضاء على الممارسات التي تعيق الوصول إلى مرحلة ممارسة بفكر ديمقراطي حقيقي. اتفق بعض الاطر على فتح ورش قيل أنه منتدى لكل الديمقراطيين. كثرت الخطابات حول غد جميل، مليء بالآمال و الوعود. و رجع هؤلاء الديمقراطيون إلى جمعياتهم و احزابهم، و لم يخطر ببالهم أن ثقافة ( الفديك) ستعود لتخلق حزبا يجمع اليساريين باليمينيين، و الاقطاعيين بالبورجوازيين، و الماضويين بالحداثيين، و المعتقلين السابقين بجلاديهم، و الفلاح الصغير بصاحب الاستغلاليات الكبرى، و مناضلات يساريات بسليلات أسر اقطاعية مترهلة . وهكذا اختلط الكل بالكل بدون تمازج ، و كبرت الطموحات الشخصية لتغيب الآمال الشعبية. غاب التأطير الفكري و السياسي لكي يكتفي حزب الأصالة و المعاصرة بتقارير أصدرها لجنة تقرير الخمسينية و لجنة الإنصاف و المصالحة. و لم تنجح كثير من الأحزاب في إتخاذ المساحات اللازمة مع هذه اللخبطة التي لا زالت تجثم على صدورنا إلى اليوم. انتبه بعض المناضلين إلى تورطهم في مشروع لا علاقة له بالتغيير المنشود، فكفروا به. و تعرضوا ،بالرغم من ذلك، لمحاكمة رمزية من طرف رفاقهم في محن مضت، و سجلت في معتقلات سيئة الذكر. و يمكن القول أن من شاركوا في صنع حلم ندموا على دخولهم في نوم تحول إلى تنويم ” مغناطيسي”.

أريد أن أصدق وعود وزير الداخلية لكي تمر الانتخابات المقبلة بنجاح، و تعبر كل المعابر المؤدية إلى النزاهة. و لا أعتبر أن جوهر الضمانات هي مراجعة اللوائح الانتخابية، و فتح الفرص أمام النساء و الشباب، و ضمان تمويل ملاءم للأحزاب و غيرها من المحاور التي جاءت في لقاء وزير الداخلية بالأحزاب. ستظل الضمانات الحقيقية هي المحاربة الحقيقية للفساد كمبدأ دستوري أراد وزير العدل أن يدخله إلى العدم. لا يمكن أن ننظم انتخابات، و نضمن نزاهتها بدون محاسبة من اغتنوا بدون أسباب اقتصادية نتيجة استثمار أو عمليات تجارية أو عقارية. لا يمكن أن تقبل الدولة منع جمعيات المجتمع المدني النزيهة من الإسهام في حماية البلاد من أفعال مجرمي المال العام. و لا يمكن أن يتم الحد من فعل و دور وكلاء الملك من مواجهة الفساد. و لا يمكن أن تتحرك الدعوى العمومية بالاعتماد على تقارير تنتجها مؤسسات لا تتوفر على كل الآليات القانونية و البشرية لأداء ادوارها. مظاهر الاغتناء غير المشروع يجب أن تظل هي المفتاح للبدء في إجراءات المساءلة القانونية.

و إذا لم تتحقق شروط محاربة الفساد، فلا يمكن أن ننتظر اقبالا على الانتخابات. و يجب أن نربط بين تواجد الفاسدين في مؤسساتنا، و بين نسبة المشاركة في الانتخابات. و تعتبر هذه النسبة رسالة للدولة، التي نريدها سدا منيعا أمام أعداءها، لكي تحمي المواطنين الذين لا زالوا يتمسكون بقوتها، و بقدرتها على حماية الوطن. وسيظل لسان المواطن يقول أن الفقر و التهميش ليس قدرا، و لكنه نتيجة لفعل نخبة سيئة تغتني على حساب الشعب. فمهما غيرنا شروط تنظيم الانتخابات، فسيظل الفساد عدو إستراتيجي، و من يمارسونه أعداء للوطن و لمستقبل وحدته ، و تماسك مكوناته. يرتاح كل المواطنين حين تمسك الدولة بوسائل تحقيق محاسبة المسؤولين. و يجب أن يظل المثقفون ممسكون بوسائل القراءة النقدية لكل الوعود و أن تكون هذه القراءة سياسية و موضوعية، و بعيدة عن إيمان العجائز. و يجب على المفتشيات العامة، و على المجلس الأعلى للحسابات أن تنشر تقاريرها بكثير من التفاصيل، و أن تتضمن كل ما يمكن القضاة على الفصل في طبيعة الأعمال التي يمكن أن تصنف في مستوى الأفعال الإجرامية.

أكد قانون صوت عليه البرلمان أن الجمعيات لا يمكنها أن تساهم في فضح الفاسدين. و زاد وزير العدل في مرافعته متهما كثيرا من الجمعيات بافتقاد كل شرعية في هذا المجال. و لا يمكن لأي مواطن أن يثق بحكومة تسد الطريق أمام محاسبة المسؤول، ولو ظهرت عليه آثار الاغتناء غير المشروع. أحب ممارسة السياسة، و أكره أن يشارك في الانتخابات اقلية من بني وطني. و أرجو أن تشعر الدولة بأن ضعف المشاركة في الانتخابات يشكل صرخة في وجه الفساد و المفسدين. و أرجو أن لا يؤول الانتهازيون نسبة عدم المشاركة إلى تصويت غير مباشر على الدولة و مؤسساتها . قدرة التغيير ترتبط بقوة الدولة ، و بثقة الطبقات الشعبية في مشروعيتها. نكاد نؤمن على أن الغياب قادر على القرار، و لكن الشعب يؤمن أن كل حضور يؤكد حضور مركزية القرار.