على امتداد أربعة قرون، وفي زمن طغت فيه السرعة ووسائل النقل الحديثة، ما زالت قافلة “ركب الشرفاء المعاشيين” تنساب على بطون السهول المغربية شاقة طريقها على ظهور الدواب، في رحلة استثنائية تمتد لأكثر من 40 يوما. فهي ليست مجرد رحلة، بل هي موروث حي يضرب بجذوره في عمق الذاكرة المغربية، وتقليد عريق يصر أبناء العمومة من “المعاشيين” على إحيائه سنويا لصلة الرحم، وتجديد روابط الدم التي تفرقت بين مناطق دكالة والشاوية والشياظمة وغيرها من ربوع المملكة.
بحسب روايات الشرفاء، تعود حكاية الركب إلى أربعة قرون على الأقل، حين تفرّعت ذرية سيدي علي وأبنائه الثمانية بين الشياظمة وعبدة ودكالة والشاوية. منذئذ، تلتحم السلسلة سنويا؛ عام يزور فيه ركب الشاوية أبناء عمومتهم في الشياظمة، وفي العام التالي يردّ الشياظمة الزيارة. “هذا تاريخنا ولا نريد قطعه”، يقول أحد أعيان المعاشيين، مضيفا: “غرضنا هو صلة الرحم لا غير”.
“هذه صلة رحم بين بني عمومة المعاشيين،” بهذه الكلمات يقول أحد الشرفاء حديثه، شارحا أصل هذا التقليد الفريد. تعود القصة إلى سيدي علي معاشو الذي ترك وراءه ثمانية أبناء توزعوا في مناطق مختلفة، فكان “الرَكْب” هو الوسيلة التي ابتدعها الأجداد للحفاظ على تواصلهم وتوارثتها الأجيال. ويضيف: “بقينا مواصلين في هذه الصلة إلى يومنا هذا، نرثها عن آبائنا كما ورثوها عن أجدادهم، منذ فترة تأسيس الدولة السعدية”.
إنها رحلة تتجاوز مجرد التنقل، فهي محملة برمزية تاريخية عميقة، حيث يقطع المشاركون مسافات طويلة، متنقلين بين محطات (“حطات”) محددة، ليحلوا كل ليلة ضيوفا على قبيلة أو دوار يستقبلهم بحفاوة بالغة.
طقوس راسخة ونظام اجتماعي فريد
ما إن تصل القافلة إلى وجهتها، حتى تعلو الزغاريد وتدق الدفوف، وتُنصب موائد الاستقبال العامرة بالتمر والمشروبات. إنه مشهد احتفالي يجسد كرم الضيافة المغربي الأصيل وروح التضامن المتوارثة. يقول أحد المشاركين: “سترى الكسكس والقصعة والخيرات، فالشعب المغربي كريم ومضياف”.
ولا يقتصر “الركب” على الجانب الاحتفالي، بل يرتكز على نظام اجتماعي واقتصادي دقيق ومتعارف عليه. يشرح أحد المنظمين: “هناك عرف يتداوله الشرفاء فيما بينهم لا يمكن لأحد أن يغيره”. فكل الهدايا والإكراميات التي تُجمع، سواء كانت مالية أو عينية، يتم تسجيلها وتقسيمها بعدالة على المشاركين.
ومن أبرز طقوس “الركب” ما يُعرف بـ “المرفودة”، وهي هدايا يقدمها الناس للشرفاء، كأن يأتي أحدهم بخروف “حولي” أو تيس “عتروس”. هذه الهدايا “تُجمع وتُباع في مزاد علني، ولكن بثمن رمزي، فخروف قد يساوي 20 ألف ريال (1000 درهم) يُباع بـ 6000 أو 8000 ريال فقط، وتضاف أمواله إلى المبلغ الإجمالي الذي يوزع على الجميع”. ويتم هذا التوزيع عبر نظام دقيق يقسم المشاركين إلى 11 مجموعة “جانبة”، لكل مجموعة مقدمها الذي يتسلم حصتها ليوزعها على أفرادها.
تمسّك بالأصالة في وجه الحداثة
في عصر السيارات والطائرات، يبرز السؤال؛ لماذا الإصرار على السفر الشاق على ظهور الحمير والبغال؟ الجواب يكمن في الرغبة العميقة في الحفاظ على أصالة الطقس. “من المفروض على الركاب أن يكونوا على الدواب”، يؤكد أحد الشرفاء، مضيفا: “لو سمحنا بالسيارات، لظهرت مشاكل أخرى لا يمكن للعرف أن يتحكم فيها. نريد أن نحافظ على هذا المقياس الذي كان عليه أجدادنا”.
هذا التمسك بالتقاليد يمتد أيضا للدفاع عن جوهرها الروحي والاجتماعي. فالمشاركون يحرصون على التأكيد أن هذا التقليد بعيد كل البعد عن “الشبهات أو الشركيات”، بل هو جزء لا يتجزأ من العادات المغربية الأصيلة مثل “التويزة” و”أدوال”، التي ترسخ قيم التآزر وصلة الرحم.
الرحلة منظمة بشكل رسمي، حيث يقودها “مقدم الإعلام” الحاصل على ترخيص من السلطات المحلية، والذي يعلم كل عمالة يدخلها بوصول القافلة، مما يضفي طابعا رسميا ويضمن سير الرحلة في أمان.