أثار تنظيم وتمويل عدد من المهرجانات الثقافية والفنية من المال العام في عدد من الجماعات الترابية بإقليم أزيلال جدلا واسعا وحفيظة فاعلين سياسيين ومدنيين، الذين دقوا ناقوس الخطر حول ما اعتبروه تحويلا ممنهجا لهذه الفضاءات الاحتفالية إلى منصات سياسية وحملات انتخابية قبل أوانها، وذلك على حساب أولويات تنموية حقيقية لساكنة لا تزال تعاني من وطأة الهشاشة والتهميش.
ويأتي هذا الجدل في سياق خاص يمر منه الإقليم، الذي ما إن يذكر اسمه حتى تستحضر الذاكرة فواجع كبرى كحادثة أيت عنيناس المأساوية، والآثار العميقة لزلزال الحوز، ومسيرات الغضب والاحتجاج التي شهدتها مناطق معزولة كأيت بوكماز وأيت أمديس. وفي خضم هذا النقاش المحتدم، يبدو أن السلطات المحلية قد نأت بنفسها عن هذه المهرجانات، بينما تتعالى أصوات المتتبعين للمطالبة بتدخل عاجل وحازم لوضع حد لما وصفوه بمظاهر استغلال المال العام في حملات انتخابية مقنعة.
منصات ثقافية بواجهة انتخابية
وفي هذا السياق، صرح الفاعل الجمعوي محمد أيت أزناك، وهو من أبناء منطقة أيت أمديس، بأن التحركات التي يقوم بها بعض السياسيين في الإقليم خلال هذه الفترة بالذات لا يمكن وصفها بالبريئة على الإطلاق، بل هي بمثابة إعلان صريح ومبطن عن انطلاق حملة انتخابية سابقة لأوانها. ووصف أيت ازناك، وفقا للمعلومات المستقاة، هذا السلوك بأنه استغلال مشين للأنشطة الثقافية التي تحتضنها المنطقة لتحقيق أغراض سياسية ضيقة.
وأوضح ضمن تصريح لجريدة “العمق” أن خطورة الأمر تكمن في كون هذه الجماعات القروية والنائية تعتبر خزانا انتخابيا كبيرا ومهما، يلعب دورا حاسما في تحديد الفائزين بالمقاعد البرلمانية، وهو الأمر الذي يعيه الفاعل السياسي جيدا، ويدفعه لتجنيد كل الوسائل الممكنة، بما فيها الأنشطة الثقافية، مخافة خسارة منصبه أو مقعده.
وشدد أيت ازناك على ضرورة أن يدرك هؤلاء السياسيون أن المهرجانات في جوهرها ليست سوى مناسبات للاحتفال بالتراث والثقافة المحليين، وتعزيز الروابط الاجتماعية، ولا يجب أن تخدم أهدافا سياسية شخصية من خلال استغلال جمعيات المجتمع المدني وتوظيفها بشكل انتهازي، وتحويل هذه المناسبات الثقافية البريئة إلى حلبات للتناطح السياسي، مما يقوض أهدافها النبيلة ويفقدها مصداقيتها.
وطرح أيت ازناك سؤالا، اعتبر أنه يجب أن يطرح بقوة، وهو: ماذا قدم الفاعل السياسي المحلي والجهوي لهذه المناطق المهمشة التي لم تتعاف بعد من التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، ولا تزال تلملم جراحها من مخلفات زلزال الحوز المدمر، حتى يأتي اليوم ليحتفل إلى جانب المواطنين؟ وأعرب عن أسفه العميق من أن تنظيم وتمويل هذه المهرجانات يتم من المال العام، حيث تخصص لها ميزانيات من صناديق الجماعات الترابية، في ظل واقع اجتماعي قاس يتسم بالهشاشة التي تعانيها هذه المناطق القروية، وعزلتها شبه التامة عن العالم الخارجي بسبب ما وصفه بالتهميش المدبر.
واستنكر بشدة المفارقة الصارخة التي تتمثل في أن الفاعل السياسي يقطع طريقا خطرة تحصد أرواح المواطنين كل سنة ليحضر مهرجانا ممولا من أموال دافعي الضرائب، دون أن يخجل من نفسه أو يتذكر مآسي هذه الطرقات التي كانت سببا في شهرة الإقليم السلبية. وختم تساؤلاته بالتأكيد على أن الأولويات الحقيقية التي يجب أن تصرف عليها هذه الأموال هي الاستثمار في التعليم للحد من نسب الهدر المدرسي المرتفعة، وتوفير الخدمات الصحية لحفظ صحة وأرواح المواطنين في المنطقة.
من جانبه، أوضح كاتب الفرع المحلي لحزب الاستقلال بدمنات، عبد اللطيف بوغالم، أنه على الرغم من أن المهرجانات تدخل نظريا في خانة الأحداث الموسمية التي تشهدها أغلب المدن المغربية بأهداف محددة، من ضمنها تحريك عجلة الاقتصاد المحلي، وتثمين المجال ومنتوجاته، وتشجيع السياحة، بهدف عام هو تحقيق موارد مالية لإغناء ميزانية الجماعة كشكل من أشكال الاستثمار السياحي الذي يلمس حياة المواطنين بشكل عام، إلا أن السياقات الخاصة بمدينة دمنات وضواحيها تختلف كليا، وليست بمعزل عن خرق هذه القواعد المتعارف عليها.
وأكد بوغالم في حديثه لجريدة “العمق”، أن المهرجانات في المنطقة أصبحت للأسف فرصة ينتظرها البرلماني لكي يؤثث الصفوف الأمامية في المنصات، ويعمل على تسويق وجهه الانتخابي، وتمرير خطابات سياسية كلما سنحت له الفرصة بذلك. وأشار إلى أن المعضلة الكبيرة تكمن في خصوصية بعض المناطق الجبلية، سواء على مستوى الطرق غير المعبدة التي تحصد أرواحا بريئة كل سنة في صمت مقصود من طرف البرلماني، أو على مستوى غياب الخدمات الاجتماعية الأساسية كالتعليم والصحة، وهما قطاعان يؤرقان ساكنة الجبل دون أن يكلف البرلماني نفسه عناء الصراخ تحت قبة البرلمان للدفاع عن حقوقهم.
وأضاف أنه بهذا التداخل “الخطير” بين ما هو سياسي وما هو احتفالي، تنطلق الوعود الخرافية في استغلال فاضح لبساطة ساكنة الجبل ونواياهم الحسنة، بهدف استمالتهم قبل الأوان، أي قبل موعد الاستحقاقات التشريعية التي كان من اللازم أن يحكمها البرنامج الانتخابي للأحزاب، وأن يحكمها قرب البرلماني من المواطن صيفا وشتاء، صباحا ومساء، وكلما سنحت الفرصة لذلك من أجل ربط الأواصر والإنصات لهموم الناخبين.
وأكد بوغالم أن كل تلك الميزانيات المرصودة للإلهاء كانت ستعود بالنفع المؤكد على الساكنة لو تم رصدها لأمور تيسر سبل عيشهم، كحفر الآبار، وشق الطرق، والربط بشبكات الإنترنت والهاتف، وكذا توفير جميع الخدمات الأساسية، عوض إلهائهم بمجموعات غنائية تغتني بدراهم المقهورين وتفترس الولائم على حساب كسرة خبز سكان الجبل.
تنمية ضائعة على إيقاع الاحتفالات
وفي السياق ذاته، أفاد كاتب فرع حزب التقدم والاشتراكية بدمنات، عبد الجليل أبو الزهور، بأن المهرجانات الثقافية والاجتماعية لم تعد مجرد فضاءات للاحتفال بالهوية المحلية وتعزيز الروابط المجتمعية كما كانت في السابق، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى منصات سياسية بامتياز. واعتبر أبو الزهور أن حضور بعض البرلمانيين والمنتخبين بشكل مكثف، وإصرارهم على إلقاء كلمات تنضح بالخطاب السياسي، يكشف بوضوح لا لبس فيه عن وجود حملة انتخابية مبكرة تدار تحت ستار ثقافي.
وأضاف في تصريح لجريدة “العمق” أن المشكل هنا لا يقتصر فقط على تشويه الوظيفة الأصلية للمهرجانات، بل يتجاوز ذلك إلى توظيف موارد جمعوية وعمومية لخدمة أهداف انتخابية ضيقة، مما يطرح أسئلة أخلاقية وقانونية عميقة حول مصداقية هذه الفضاءات. وحذر من أن الأخطر في هذه الممارسات هو أنها تكرس اختلالا واضحا في مبدأ تكافؤ الفرص بين الفاعلين السياسيين، وتحول المنافسة الانتخابية الشريفة إلى سباق غير متكافئ.
وقال أبو الزهور إن ما يجري يعكس رغبة واضحة في استمالة الناخبين عبر خطاب إيحائي يوظف الثقافة كوسيلة للتعبئة، ويعيد إنتاج الولاءات السياسية في الإقليم والجهة. وهو ما يفرض اليوم، حسب رأيه، إعادة النظر بشكل جدي في القواعد التنظيمية الكفيلة بفصل ما هو ثقافي عما هو سياسي، حماية لنزاهة العملية الديمقراطية وصونا لثقة المواطنين في العمل الجمعوي.
وأضاف أبو الزهور في جزء آخر من تصريحه لجريدة “العمق”، أن ما تم طرحه يمثل جوهر الإشكال الحقيقي، معترفا بأنه ربما تمت المبالغة سابقا في التركيز على البعد السياسي والحسابات الانتخابية الضيقة المرتبطة بالمهرجانات، لكن الأهم والأجدر الآن هو التوقف عند السياق الاجتماعي والاقتصادي الهش الذي تعيشه المنطقة.
وأوضح المتحدث أنه حين يكون الإقليم مصنفا من بين أفقر أقاليم المغرب، وتفتقر جماعاته القروية إلى أبسط شروط العيش الكريم كالماء الصالح للشرب، والطرق المعبدة، والمرافق الأساسية، فإن تنظيم مهرجانات بهذا الزخم المالي يثير أكثر من علامة استفهام. وقدم أبو الزهور ما يشبه الاعتذار، قائلا إن الأولوية لم يكن ينبغي أن تقدم للفرجة والتظاهر الثقافي على حساب الحاجيات الملحة للسكان. فلو وجه جزء بسيط من تلك الموارد إلى الاستثمار في البنيات التحتية والخدمات الأساسية، لكان الأثر أعمق وأكثر استدامة، ولشعر المواطن فعلا أن التنمية تخاطبه في ضروراته اليومية لا في مشاعره العابرة.
وخلص الفاعل السياسي ذاته إلى أن الثقافة مطلوبة، بل هي رافعة حقيقية للتنمية، لكن حين تتأسس على قاعدة اجتماعية صلبة تضمن الحد الأدنى من الكرامة والعيش الكريم. أما في غياب ذلك، فإن المهرجانات تصبح أشبه بطلاء جميل يخفي شقوق جدار متداع.
المجتمع المدني.. أداة في اللعبة السياسية؟
من جهته، عزا رئيس الفرع المحلي للجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمغرب فرع فطواكة، فريد الصفاوي، حضور بعض السياسيين في منصات المهرجانات إلى الدعوات التي يتلقونها من طرف هيئات المجتمع المدني المنظمة. واعتبر أن هذا الحضور يجده السياسي فرصة سانحة للترويج لأيديولوجيته السياسية ولو بشكل غير مباشر، مؤكدا أنه لا يوجد خطاب بريء، كما أن علاقة السياسي بالمجتمع المدني هي علاقة وطيدة ومعقدة.
وأقر الصفاوي ضمن تصريحه بأن المهرجانات تلعب دورا مهما في تعزيز التراث والهوية ودعم التفاهم بين الثقافات، وتنمية الحس الفني والإبداعي، وتوفير منصات للتفاعل والتواصل المجتمعي، إلا أنه استدرك قائلا إن هناك أولويات قصوى مثل توفير الماء للمواطنين، وشق المسالك الطرقية لفك العزلة. وشدد بالموازاة مع ذلك على أن التنمية تظل من المهام الأساسية للمجالس المنتخبة وليس المجتمع المدني، اللهم إن كان هناك دعم حقيقي من هذه المجالس يصب في هذا الاتجاه التنموي.
وفي تصريح له، انتقد الفاعل الجمعوي والمهتم بالشأن العام، أيوب الحجاجي، ما أسماه “استغلال” بعض البرلمانيين لجمعيات المجتمع المدني في دوائرهم الانتخابية من أجل تحقيق أهداف شخصية وترويجية. وأوضح الحجاجي أن هؤلاء البرلمانيين يسخرون الجمعيات المنتمية إلى مناطق نفوذهم لتلميع صورتهم لدى الساكنة، خاصة وأنهم لا يستطيعون مواجهة المواطنين بشكل مباشر خوفا من ردود فعل سلبية نتيجة غيابهم التام طيلة ولايتهم التشريعية.
وأشار في تصريح ادلى به لجريدة العمق إلى أن هؤلاء البرلمانيين ينسقون مسبقا مع هذه الجمعيات المحلية، التي تصبح بمثابة “رابطة وصل” بينهم وبين السكان. واستنكر الحجاجي غياب الشفافية حول طبيعة العلاقة بين الطرفين، وما إذا كانت هناك “إغراءات” مادية أو غيرها تدفع هذه الجمعيات للقيام بهذا الدور. وتساءل عن المكاسب التي تجنيها هذه الجمعيات من تعاونها مع برلمانيين يغيبون عن الساحة لخمس سنوات كاملة، ولا يظهرون إلا مع اقتراب موعد الانتخابات.
وأضاف أن بعض هؤلاء البرلمانيين والمنتخبين لم يسبق لهم عقد أي لقاء تواصلي أو تقديم أفكار أو مشاريع ملموسة طوال فترة انتدابهم. وانتقد الحجاجي لجوء البعض إلى “برمجة مشاريع ” في السنة الانتخابية فقط، حيث يتم إطلاق المشاريع التي قد يكونون قد تدخلوا فيها، ليبدو الأمر وكأنه “إنجاز” شخصي لهم. واعتبر أن هذه “الإنجازات القليلة” يتم تأجيلها بشكل متعمد إلى السنة الانتخابية لترك “بصمة” في أذهان الناخبين، والتأثير على قرارهم في التصويت.
تعليقات الزوار
البكاء ثم البكاء،،،، وماذا بعد البكاء؟ غالبية السكان،يريدون هذه المهرجانات،،، فهي تنطوي على كل شئ،،، تحريك عجلة الاقتصاد غير المهيكل،،،ترويج الممنوعات،،، ترفيه،باهث على بعض-المداويخ-،،،وامور اخرى،لاداعي لذكرها،احتراما . هل هناك بديل؟ لان هذه المهرجانات،،،ظلت نعيشها الساكنة(في مناطق المغرب ككل)،،،منذ أكد بعيد...لايمكن منعها،فهي تحتاج فقط نوعا من التنظيم...