وجهة نظر

الديمقراطية وحماية الحقوق

قال الفيلسوف أرسطو “الديمقراطية هي حكم الأحرار للأحرار”، ولعل هذا القول يلخص جوهر ما نحتفي به بتاريخ 12/9/2025 في مناسبة اليوم الدولي للديمقراطية، فهو يذكّرنا بأن الحرية ليست امتيازًا تمنحه السلطة، بل حقّ أصيل لا تقوم الديمقراطية من دونه، وهو ما يجعل من هذا اليوم أكثر من مجرد تاريخ رمزي، بل محطة سنوية نعيد فيها التأكيد على أن الديمقراطية قيمة إنسانية عابرة للحدود، ومناسبة عالمية نراجع فيها مسار الشعوب في نضالها الطويل من أجل الحرية والكرامة.

إن الديمقراطية ليست مجرد آلية سياسية، بل هي منظومة قيمية وأخلاقية تتجسد في احترام حقوق الإنسان، وصون كرامته، وضمان العدالة للجميع، ولهذا فهي تشكل السياج الذي يحمي المجتمع من الاستبداد ويصون الأفراد من تعسف السلطة، كما أن أي نظام يدّعي الديمقراطية دون أن يكفل هذه الحقوق إنما يقدّم صورة شكلية لا تعكس جوهر الديمقراطية الحقيقي، فالديمقراطية لا تُقاس بالمظاهر، بل بمدى تجذرها في مؤسسات الدولة وسلوكيات المجتمع.

إن الديمقراطية الحقيقية تتجاوز حدود الانتخابات الدورية وصناديق الاقتراع، لتصبح أسلوب حياة يكرّس المشاركة الشعبية، ويعزز المساءلة، ويضع سيادة القانون فوق أي اعتبار، فهي مشروع يومي يتجسد في القرارات والسياسات، لا حدثًا عابرًا ينتهي بانتهاء عملية انتخابية، ومن دون هذا البعد العميق تبقى الانتخابات مجرد إجراءات شكلية لا تؤدي إلى بناء دولة المواطنة، وحين تغيب المواطنة الحقيقية يتحول الشعب إلى كتلة صامتة لا دور لها في صياغة مستقبله.

فنجاح أي تجربة ديمقراطية يُقاس بقدرتها على حماية الفئات الأضعف، وتحصين الحريات الأساسية، وإتاحة المجال أمام التنوع والاختلاف بوصفه مصدر قوة لا سببًا للانقسام، وهذا النجاح لا يتحقق إلا إذا كان الإنسان هو الغاية الأولى والأخيرة لكل سياسة عامة، وهو ما يقتضي أن تكون الدولة في خدمة الإنسان، لا أن يكون الإنسان وسيلة لخدمة الدولة، فالدولة التي تفقد بعدها الإنساني سرعان ما تفقد مشروعيتها وشرعيتها.

لقد علمتنا التجارب التاريخية أن الديمقراطية لا تستقر إلا إذا قامت على ركائز راسخة: مؤسسات قوية، قضاء مستقل، إعلام حرّ، ومجتمع مدني يقظ، وهذه الركائز ليست ترفًا سياسيًا، بل ضمانة لبقاء الديمقراطية واستمرارها، فكل خلل يصيب إحدى هذه الركائز ينعكس ضعفًا على البناء الديمقراطي برمّته ويهدد تماسكه الداخلي، وهو ما يجعل حماية هذه الركائز واجبًا وطنيًا لا يقبل التأجيل.
وهذه الركائز تشكل جميعها الحصن المنيع في وجه الاستبداد والفساد، وتفتح الطريق أمام التنمية المستدامة والسلام الاجتماعي، فلا نهضة بلا عدالة، ولا تنمية بلا حرية، ولا سلام بلا مشاركة، فحيث يسود الفساد تسقط العدالة، وحيث يغيب الاستقلال تسقط الثقة بين المواطن والدولة، والثقة هي العقد الاجتماعي غير المكتوب الذي لا تقوم الديمقراطية من دونه.

واليوم، في ظل ما يشهده عالمنا من أزمات سياسية واقتصادية وصراعات مسلحة، يبدو التمسك بالديمقراطية أكثر من مجرد خيار؛ إنه ضرورة وجودية لحماية السلم الأهلي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان مستقبل الأجيال القادمة، فالتاريخ شاهد على أن كل مجتمع يفرّط بالديمقراطية يفتح الباب واسعًا أمام الفوضى والانقسام، وذلك لأن غياب الديمقراطية لا يخلّف سوى الانقسام والظلم والعنف، وهي أمراض لا تنجو منها أي دولة إذا استهانت بقيمة الحرية، ولا دواء لهذه الأمراض إلا بالعودة إلى قيم الحرية والعدالة والمساواة.

فالديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة التي تتيح للشعوب أن تكون صانعة لقرارها، لا مجرد متلقية له، وحين يُستبعد الشعب من تقرير مصيره يفقد النظام السياسي جذوره وشرعيته، وحين يشارك الناس في صنع مصيرهم يشعرون بأنهم شركاء حقيقيون في بناء الوطن، فالمواطنة الفاعلة هي جوهر الديمقراطية وروحها الحيّة.

إن إحياء هذا اليوم يجب أن يكون لحظة وعي جماعي تدفعنا جميعًا، حكومات ومجتمعات وأفرادًا، إلى مراجعة تجاربنا الوطنية بصدق، والاعتراف بما تحقق، ومعالجة ما لم يتحقق بعد، فالمراجعة الصادقة ليست إضعافًا للديمقراطية، بل تعزيز لها وتجديد لمسيرتها، والتقييم الصريح للتجربة الديمقراطية هو الخطوة الأولى نحو إصلاحها وتعزيزها، ومن دونه تبقى الديمقراطية شعارًا هشًا لا يصمد أمام الأزمات.

فالديمقراطية ليست منحة تُمنح، ولا شعارًا يُرفع، بل هي ممارسة يومية تتطلب التزامًا، ووعيًا، وإيمانًا راسخًا بأن الحرية والكرامة حقوق أصيلة لا تقبل المساومة، وهي عقد اجتماعي متجدد يُبنى بالجهد والتضحيات، لا بالوعود والخطب، ولا تنجح إلا إذا تحولت إلى ثقافة متجذرة في وعي الشعوب وسلوك الحكام، فالثقافة الديمقراطية هي التي تجعل من القيم ممارسة حيّة، لا نصوصًا جامدة.

كما قال نيلسون مانديلا “الديمقراطية تعني أن تُمنح لكل إنسان الفرصة ليكون سيدًا على حياته، لا عبدًا لقرارات غيره”، ويذكّرنا هذا القول بأن الدفاع عن الديمقراطية واجب أخلاقي لا ينتهي، لأنه السبيل إلى بناء أوطان يسودها الحق والعدل والكرامة الإنسانية، فالوطن الديمقراطي ليس مجرد حلم نتطلع إليه، بل هو مسؤولية مشتركة نصنعها معًا، جيلًا بعد جيل.