مجتمع

رحلة العمر: المدينة المنورة.. محطة الروح في حضرة الرسول ﷺ قبل بدء المناسك (الحلقة 2)

سلسلة رحلة العمر.. انطباعات حاج مغربي

الحج ليس مجرد سفر أو تنقل بين شعائر وأمكنة، بل هو عبور روحي عميق يعيد صياغة علاقة المسلم بربه ونفسه والعالم من حوله، فمنذ أن نادى الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، ظل هذا الركن العظيم يجمع المسلمين من كل فج عميق، في مشهد مهيب تتجلى فيه وحدة الأمة ومساواتها أمام الله.

في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “العمق”، يوثق الحاج المغربي أحمد الطلحي، المنحدر من مدينة طنجة والخبير البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، تفاصيل رحلته إلى الديار المقدسة خلال موسم 1446 هـ، بعد سنوات طويلة من الانتظار والدعاء.

بين الشوق قبل السفر، والسكينة في المشاعر، والمواقف المؤثرة في عرفات والطواف، يقدم الطلحي شهادة صادقة وتأملات روحية وإنسانية وتنظيمية، يشارك من خلالها القارئ مواقف لا تُنسى، ونصائح قد تعين المقبلين على هذه الفريضة العظيمة.

ـــــــــــــ

الحلقة الثانية: المدينة المنورة.. محطة الروح في حضرة الرسول ﷺ قبل بدء المناسك

المحطة الأولى للأفواج الأولى للحجاج المغاربة هي المدينة المنورة، فيما تتجه الأفواج المتأخرة مباشرة إلى مكة المكرمة، حيث يسافرون بلباس الإحرام لأن الميقات يوجد قبل الوصول إلى مطار جدة.

ولكل من المسارين إيجابيات وسلبيات، حسب رأيي المتواضع، يمكن اختصارها كما يلي:

– البدء بالمدينة المنورة: من إيجابياته أن الحاج يأخذ قسطا من الراحة البدنية والنفسية بسبب ضغوطات الاستعداد للسفر، والاستراحة من عمله المهني، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، الاستراحة قبل القيام بمناسك العمرة والحج التي تتطلب جهدا كبيرا من الحجاج، بينما في المدينة المنورة هناك أعمال أقل ولا تتطلب جهدا كبيرا. كما أن الإقامة في المدينة المنورة تكون فرصة لتأقلم الحجاج مع مناخ المنطقة الحار والجاف، والتأقلم مع طبيعة تنظيم السلطات السعودية للحرمين الشريفين. أما سلبيات المسار فتتمثل أساسا في عدم أخذ قسط كاف من الراحة البدنية والنفسية بعد أداء مناسك الحج والعمرة قبل العودة إلى أرض الوطن، وما ينتظره الحجاج من زيارات الأقارب والأصدقاء المرهقة متبوعة باستئناف العمل المهني

 – البدء بمكة المكرمة: إيجابياته هي أساسا سلبيات المسار الأول، وسلبياته هي إيجابيات المسار الأول

وكان فوجنا ممن اتجه أولا إلى المدينة المنورة، وكنت من المحظوظين، لأنني أفضل هذا المسار عن المسار الآخر. 

دامت إقامتنا في المدينة المنورة خمس ليال وستة أيام تقريبا، وهي كانت مدة كافية، تمتعنا فيها بالهدوء والطمأنينة والسكينة التي تتميز بها هذه البقعة المباركة عن باقي الديار المقدسة، كيف لا وساكنها هو أفضل الخلق والمرسلين، صلوات ربي عليه وسلم تسليما.

ويعتقد خطأ عدد لا بأس به من المسلمين بأن زيارة المدينة المنورة هي جزء من مناسك الحج والعمرة، بالإضافة إلى الاعتقادات الأخرى من مثل أن قبر الرسول ﷺ موجود داخل الكعبة. وشخصيا، هذا ما كنت أعتقده في صغري، ومرد ذلك إلى غياب ثقافة الحج إلى درجة كبيرة لدى المسلمين للأسف الشديد.

ويمكن اختصار أعمال زوار المدينة المنورة التي فيها أجر في الأعمال التالية:

1- الصلاة في المسجد النبوي:

الصلاة في المسجد النبوي، سواء المفروضة أو النافلة، تعدل ألف صلاة في أي مسجد آخر عدا المسجد الحرام. فحينما يصلي المسلم فيه الصلوات الخمس ليوم واحد كأنما صلى 1000 يوم وهو ما يعادل سنتين وتسعة أشهر.

هذا بالإضافة إلى أنه في جميع الأوقات تقريبا تصلى صلاة الجنازة، وفضلها كبير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ؛ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ” (أخرجه الشيخان). وإذا تم الاكتفاء فقط بالصلاة دون حضور الدفن، وهذا هو السائد عند الزوار، فكم من جبل أحد أجرا سيغنم الزائر.

ومن العبادات التي ينبغي أن يواظب عليها الحاج والمعتمر في المسجد النبوي: قراءة القرآن ولما لا ختمه خلال إقامته بالمدينة المنورة، والذكر بمختلف صيغه المسنونة، والدعاء المستمر بما شاء ولمن شاء، والإكثار من الصدقة.

ومما أجمع عليه أهل العلم، أن العبادات والأعمال الصالحات في هذا المقام العظيم يضاعف أجرها وليس فقط أجر الصلاة، لكن عدد الأضعاف غير معروف كما بالنسبة للصلاة.

2- السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أول عمل وآخر عمل يقوم به الزائر للمدينة المنورة، إن استطاع، هو السلام على رسول الله ﷺ. وإن كان بالإمكان أن يسلم عليه كل يوم فليفعل، خصوصا وأن هناك جناح مفتوح طول الوقت للزائرين للسلام على رسول الله، للأسف النساء لا يسمح لهن بدخول هذا الجناح، لكن يمكن لهن السلام من الخارج أمام القبة الخضراء.

والحمد لله وفقني الله للسلام على رسول الله وصاحبيه كل يوم تقريبا، كما بلغت سلام كل من أوصاني بالسلام عليه، صلوات الله عليه وسلم تسليما.

وصيغة السلام على رسول الله وعلى صاحبيه ليست توقيفية، فيمكن للزائر أن يسلم بالصيغة واللغة التي يحب، والله أعلم. والصيغة المشهورة هي:

“السلام عليك يا رسول الله يا حبيب الله، السلام عليك يا خير خلق الله، أشهدُ أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده حتى أتاك اليقين فجزاك الله عنّي وعن أمّتك خير ما جزى نبيًّا عن أمّته،

السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيرا،

السلام عليك يا عمر الفاروق ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا ثاني الخلفاء الراشدين، جزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء”.

3- زيارة الروضة الشريفة:

عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي” رواه البخاري ومسلم.

فالروضة الشريفة، خصوصا الجزء الواقع بين قبر الرسول ﷺ ومنبره، روضة من رياض الجنة. فزيارتها مع ارتداء أجمل الملابس، وصلاة ركعتين فيها ثم الدعاء بما شاء، يعد من أفضل الأعمال التي يقوم بها الزائر في المدينة المنورة. 

لكن الزيارة تكون بموعد، سواء للأفراد أو للمجموعات. والحمد لله، يسر الله لنا زيارتها، بعدما أخذت موعدا بواسطة تطبيق “نسك”.

4- زيارة مقبرة البقيع:

مقبرة البقيع قطعة من الجنة على أرض المدينة المنورة، وزيارتها مسنونة اقتداء بالنبي ﷺ الذي كان يزور البقيع ويحث على زيارته.

والمقبرة تضم رفات الآلاف من الصحابة رضوان الله عليهم أمثال: عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، والعباس بن عبد المطلب عم الرسول ﷺ. كما دفنت بها أمهات المؤمنين رضي الله عنهن باستثناء خديجة وميمونة، وكذلك فاطمة الزهراء ابنة النبي عليه السلام وولدها الحسن بن علي رضي الله عنهما، وإبراهيم ابن النبي عليه السلام. ومن أبرز الشخصيات التاريخية المدفونة أيضا بها مالك بن أنس إمام دار الهجرة وثاني الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة.

وخير ما يقول زائر البقيع: “السلام عليكم يا أهل البقيع، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين”، ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة: اللهم اغفر لهم وارحمهم.

تفتح المقبرة للزوار يوميا بعد صلاتي الفجر والعصر، ويمنع على النساء زيارتها. والحمد لله وفقني الله لزيارتها والترحم على أهل البقيع.

5- زيارة مسجد قباء:

ورد عن النبي ﷺ أنه قال: “من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان كعمرة”. كما ورد ذكر المسجد في القرآن الكريم، قال تعالى: “لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ” (التوبة: 108).

فزيارة مسجد قباء والصلاة فيه لها فضل عظيم، فهو أول مسجد بُني في الإسلام، وقد أسسه النبي ﷺ بنفسه عند وصوله إلى المدينة.

والمسجد اليوم هو في حلة جميلة، يزوره الآلاف يوميا من الزوار، ويصلون فيه. ولقد قامت السلطات السعودية مشكورة بتوسعته وتهيئة ساحاته الخارجية والمناطق الخضراء والمرائب، كما وضعت عددا من اللوحات تعرف بالمسجد وتعرف بأماكن تاريخية مهمة كانت بجانب المسجد، أهمها: موقع دار الصحابي كلثوم بن الهدم التي أقام فيها الرسول ﷺ خلال إقامته في قباء (14 يوما فقط) قبل انتقاله إلى المدينة المنورة، وموقع دار الصحابي سعد بن خيثمة رضي الله عنه حيث كان الرسول ﷺ يستقبل فيها زواره حينما كان يقطن في قباء، وموقع بئر أريس أو بئر الخاتم حيث بشر فيه الرسول ﷺ صحابته أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بالجنة.

من الطرائف التي حدثت لي في المسجد النبوي:

بينما أنا جالس كالعادة في الساحة الخلفية للمسجد مع زوجتي بعد صلاة المغرب نتناول الشاي وبعض الطعام وننتظر صلاة العشاء، وكان بالقرب منا بعض الشباب السعوديين الذي يعملون في الحرم المدني يأخذون قسطا من الراحة، إذ بأحد زملائهم مر علينا وهو متجه إليهم، فحيانا قائلا: مرحبا بالمغاربة، ثم أردف قائلا: لا تقل لي بأنك من طنجة، قلت له بالفعل أنا من طنجة، فقال طنجة العالية، قلت له هل زرتها، قال: لا، ولكنه زار مدنا مغربية أخرى. تحدثنا سريعا عن أصول المغاربة وعن جمال المغرب ودور المغاربة في نشر الدعوة في إفريقيا ودورهم في فتح الأندلس، وافترقنا عند آذان العشاء. 

ـــــــــــ

* أحمد الطلحي: إطار مغربي وخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية