منتدى العمق

“جار ومجرور” بين الذاكرة والتجديد: قراءة في عودة عمل مسرحي رائد

ليست عودة مسرحية “جار ومجرور” إلى الخشبة مجرد استعادة لعرض كوميدي ناجح من رصيد فرقة المسرح الوطني المغربي، بل هي محاولة جريئة لبعث الروح في ذاكرة تأسيسية للمسرح المغربي ومنحها بعداً جديداً يواكب لغة العصر وتطلعات جمهور اليوم. بهذا المعنى، يبدو أن فرقة “مسرح الأفق” بتارودانت تراهن على الجمع بين الوفاء للأصل والتجديد في الشكل، لتعيد طرح سؤال الإبداع المسرحي في المغرب بين الماضي والحاضر.

ذاكرة تأسيسية

النص الأصلي، الذي وقّعه الفنان محمد الجم، لم يكن مجرد حكاية ساخرة عن مرشح انتهازي يُحوِّل خادمته المثقفة إلى مدرّبة خطابية تُلقّنه فنون الخطابة، بل كان مرآة لمرحلة بكاملها من تاريخ المغرب. المسرحية، بأبطالها الكبار؛ من محمد الجم إلى عزيز موهوب، مليكة العمري، نزهة الركراكي وسعاد خيي، شكّلت علامة بارزة في المسرح الكوميدي المغربي، حيث جمعت بين الطرافة والفكر، وبين النقد الاجتماعي والجرأة السياسية. نجاحها الجماهيري الواسع جعل منها إحدى التجارب المؤسسة لهوية المسرح الوطني في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

روح جديدة

اليوم، يأتي العرض الجديد بتوقيع المخرج والدراماتورج عبد المجيد فنيش، ليقدّم معالجة إخراجية تجديدية لا تنسف الأصل، بل تشتغل على إعادة صياغته بروح بصرية ولغوية حديثة. السينغرافيا التي وضعتها سارة الرغاي تُسهم في خلق فضاء جمالي أكثر حيوية، فيما ينقل الأداء التمثيلي لجيل جديد من الفنانين – عبد الله ديدان، بشرى أهريش، محمد عزام، محمد حمزة، فاطمة الزهراء بوراس، وآخرين – الكوميديا من مجرد أداة للإضحاك إلى أداة للتفكير النقدي.

الجمع بين الأصالة والمعاصرة

الفرق بين العمل الأصلي والنسخة الجديدة يتجلى في طبيعة الرهان:

في النسخة الأولى، كان الهدف تأسيس خطاب كوميدي يلامس هموم المجتمع، ويجعل المسرح فناً جماهيرياً قريباً من الناس.

في النسخة الجديدة، تسعى فرقة “مسرح الأفق” إلى إعادة قراءة ذلك الخطاب في ضوء تحولات اليوم، مستندة إلى أدوات إخراجية معاصرة، ورؤية جمالية تتجاوز المباشرة نحو بناء فرجة مركّبة تمزج بين الطرافة والفكر.

بين الماضي والمستقبل

إن عودة “جار ومجرور” بهذا الشكل ليست مجرد تكريم لذاكرة المسرح الوطني، بل هي أيضاً رهان على المستقبل: كيف يمكن للنصوص الكلاسيكية أن تظل حية وقادرة على الحوار مع المتلقي المعاصر؟ وكيف يمكن للمسرح المغربي أن يحافظ على ذاكرته من دون أن يتقوقع فيها؟

فرقة “مسرح الأفق” تجيب عن هذه الأسئلة من خلال هذا العرض: إنها تؤكد أن المسرح المغربي يستطيع أن يكون وفياً لجذوره، وفي الوقت نفسه منفتحاً على رهانات التجديد. وبين الذاكرة والتجديد، تظل “جار ومجرور” تجربة تُجسد دينامية المسرح المغربي، وحرصه على أن يبقى فناً حيّاً يلامس أسئلة المجتمع عبر الأجيال.