عبد الفتاح الحيداوي
وجهة نظر

القضية السلفية واستثناؤها من عملية الإنصاف والمصالحة في المغرب

تمثل عملية الإنصاف والمصالحة التي قادها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (المجلس الوطني لحقوق الإنسان لاحقا) علامة فارقة في تاريخ المغرب للتعامل مع إرث انتهاكات الماضي، أو ما يعرف بـ”سنوات الرصاص”. ومع ذلك، فإن هذه العملية، بشموليتها النسبية، واجهت إشكالًا جوهريًا تمثل في استثناء فئة محددة من المعتقلين، وهم المنتمون إلى التيار السلفي الجهادي، الذين اعتقلوا في أعقاب أحداث 16 مايو 2003 الإرهابية. يُعد هذا الاستثناء مدخلًا لفهم التعقيدات التي تطبع العلاقة بين حقوق الإنسان، والأمن، والسياسات العمومية في مرحلة ما بعد الصدمة.

1- السياق السياسي والأمني: الانزياح من “قمع الدولة” إلى “حرب الدولة على الإرهاب”

يشكل السياق الزمني العامل الحاسم في فهم منطق الاستثناء. لقد اُختُتِمَت “سنوات الرصاص” تقليديًا بوصول الملك محمد السادس إلى الحكم وبداية مرحلة الانفتاح السياسي وحقوق الإنسان. إلا أن أحداث 16 مايو 2003 في الدار البيضاء مثلت نقطة تحول جذرية. لم تعد الانتهاكات تُنسب إلى “دولة قمعية” في مرحلة تاريخية سابقة، بل إلى “دولة دفاعية” تواجه تهديدًا إرهابيًا وجوديًا.

تغيير طبيعة “الضحية” و”الجاني”: في نموذج “سنوات الرصاص”، كانت الدولة هي الطرف المنتهك والمعتقلون هم الضحايا. بعد 2003، أصبح المعتقلون السلفيون، في الخطاب الرسمي والأمني،مشتبهًا بهم يمثلون تهديدًا لأمن الدولة والمواطنين، وليسوا “ضحايا سياسيين” بالمعنى التقليدي. هذا الانزياح جعل ملفهم يخرج من إطار “جبر ضرر الماضي” إلى إطار “الإجراءات الاستثنائية لمكافحة الإرهاب في الحاضر”.

الشرعية الدولية لمكافحة الإرهاب: تزامنت الحملة الأمنية المغربية مع الحملة العالمية الأمريكية “الحرب على الإرهاب” في أعقاب أحداث 11 سبتمبر. هذا منح الدولةغطاءً دوليًا وأخلاقيًا لتبني تشريعات استثنائية (قانون مكافحة الإرهاب) وإجراءات أمنية صارمة، مما جعل انتقاد هذه الإجراءات يبدو وكأنه تعاطف مع الإرهاب، وهي إشكالية واجهها المدافعون عن حقوق الإنسان.

2- تعامل المجلس الوطني لحقوق الإنسان: بين القصور المنهجي والاستثناء المقصود

تعامل المجلس الوطني لحقوق الإنسان مع ملف المعتقلين السلفيين من خلال منظورين متداخلين:

الحدود الزمنية المؤسسية: رسمت هيئة الإنصاف والمصالحة (2004-2005) حدودًا زمنية لعملها، ركزت فيها على الفترة الممتدة من الاستقلال إلى سنة 1999. هذا الإطار الزمني استبعد رسميًا وقائع ما بعد 1999، بما فيها اعتقالات ما بعد 2003. وبالتالي، لم يكن “استثناء” السلفيين قرارًا فرديًا، بل كان نتيجة حتمية لتعريف المؤسسة لنطاق اختصاصها. يرى النقاد أن هذا التحديد كان مريحًا للسلطة لأنه تجنب الخوض في انتهاكات الحاضر التي تتم تحت مظلة “مكافحة الإرهاب”.

التمايز بين “الضحية السياسية” و”المعتقل الأمني”: تبنى المجلس، عمليًا، تمييزًا بين نوعين من المعتقلين:

معتقلو “سنوات الرصاص” (ضحايا سياسيون): وهم النشطاء اليساريون، الإسلاميون (ممن اعتقلوا في السبعينيات مثلاً)، ، والمتظاهرون. هؤلاء اعترف بهم كضحايا وانطبقت عليهم آليات الجبر.

  • معتقلو ما بعد 2003: إشكالية التصنيف الحقوقي

أفرزت أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء تحوّلاً جذرياً في مقاربة الدولة لملف الاعتقال السياسي. فبينما جرى إدماج ضحايا “سنوات الرصاص” ضمن مسار العدالة الانتقالية الذي قادته هيئة الإنصاف والمصالحة، تم التعامل مع المعتقلين على خلفية ما سُمي بـ”قضايا الإرهاب” باعتبارهم خارج هذا الإطار، أي أنهم لم يُعترف بهم كـ”ضحايا سياسيين”، بل جرى تصنيفهم كـ”مشتبه فيهم إرهابيين” يخضعون للمساطر القضائية العادية، أو يُنظر إليهم ضمن مقاربة أمنية صِرفة.

غير أن هذا التصنيف أثار إشكالات حقوقية عميقة، لعدة أسباب:

تشابه الانتهاكات مع الماضي: وثّقت منظمات دولية كـ”هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” أنماطاً من الممارسات في حق هؤلاء المعتقلين، مثل الاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري لفترات معينة، والتعذيب الجسدي والنفسي، وغياب ضمانات المحاكمة العادلة (كالحق في الدفاع، وافتراض البراءة، وعلنية الجلسات). وهي نفس الانتهاكات التي عانت منها أجيال سابقة من المعتقلين السياسيين في سنوات الرصاص.

إقصاء مزدوج: تم إقصاء هذه الفئة من الضحايا من الاعتراف الرسمي، بدعوى أن قضاياهم تدخل في إطار “الجريمة الجنائية” لا “القضية السياسية”، مما جعلهم خارج نطاق برامج جبر الضرر والتعويض، وأقصاهم أيضاً من النقاش العمومي حول الذاكرة الوطنية والانتهاكات الجسيمة.

إشكالية “الرأي” مقابل “الإرهاب”: لم يُنظر إلى المعتقلين السلفيين ومن في حكمهم كـ”معتقلي رأي”، رغم أن عدداً منهم أُدين على أساس انتماءات فكرية أو ميولات سياسية أكثر من كونه ضالعاً في أفعال إجرامية مثبتة. بل إن بعض المحاكمات افتقرت إلى الأدلة المادية الكافية، واعتمدت على محاضر الضابطة القضائية التي شابتها اتهامات بالتعذيب والإكراه. هذا يطرح سؤالاً جوهرياً حول الفرق بين “معتقل سياسي” و”معتقل رأي” في السياق المغربي.

المفارقة الحقوقية: العدالة الانتقالية بُنيت على مبدأ “عدم التكرار”، أي ضمان ألا تعود الانتهاكات السابقة في صور جديدة. غير أن الانتهاكات التي طالت معتقلي ما بعد 2003 أظهرت أن الدولة لم تقطع بشكل نهائي مع ممارسات الماضي، مما قوض مصداقية خطاب “طي صفحة الانتهاكات”.

المسؤولية الدولية: من زاوية القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن وجود انتهاكات ممنهجة لحقوق الدفاع والمحاكمة العادلة يضع الدولة أمام التزامات واضحة، سواء بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، أو اتفاقية مناهضة التعذيب. ومن ثم فإن تبرير استثناء هذه الفئة من إطار العدالة الانتقالية لا يجد أساساً قانونياً صلباً، بل يعكس إرادة سياسية لتفادي تسييس ملف “الإرهاب”.

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن ملف معتقلي ما بعد 2003 كشف عن حدود المقاربة الرسمية للعدالة الانتقالية في المغرب، والتي بقيت مشروطة بسقف سياسي يرسم الخطوط الحمراء لما يمكن اعتباره “انتهاكاً ماضياً” أو “ضحية سياسية”. وهو ما جعل العدالة الانتقالية غير مكتملة، ومحدودة الأثر في بناء الثقة المجتمعية وضمانات عدم التكرار.

3- موقف السلفيين: المطالبة بالاعتراف وتفكيك ثنائية “الضحية/الجاني”

طور المعتقلون السلفيون ومناصروهم خطابًا حقوقيًا وسياسيًا متميزًا، يمكن تفكيكه على النحو التالي:

نقد انتقائية المصالحة: يطرحون سؤالًا جوهريًا: لماذا الاعتراف بضحايا الدولة في الماضي وإنكار ضحايا إجراءات الدولة الأمنية في الحاضر؟ عملية المصالحة كانتانتقائية (Sélective) وذات طابع سياسي، هدفها تسوية الماضي مع خصوم سياسيين سابقين (يسار، إسلاميون) بينما يتم استبعاد خصوم جدد (السلفية الجهادية) يعتبرون خارج دائرة الشرعية السياسية والمجتمعية.

المطالبة بـ “جبر الضرر” و”المساواة في الاعتراف”: لم تكن مطالب العديد منهم تقتصر على الإفراج فقط، بل علىالاعتراف بهم كـ”ضحايا” لانتهاكات حقوقية (تعذيب، محاكمات غير عادلة، اعتقال تعسفي) وليس فقط كمشتبه بهم إرهابيين. فهم يفصلون بين تهمة “الإرهاب” (التي يجب أن تثبت في محاكمة عادلة) وبين حق أي إنسان، بغض النظر عن توجهه، في عدم التعرض للتعذيب أو الاختطاف أو المحاكمة الجائرة.

“ضحايا المرحلة الأمنية”: صاغ المعتقلون ومحاموهم هذا المصطلح ليعكسوا فكرة أن الانتهاكات التي تعرضوا لها ليست مجرد أخطاء فردية، بل هينتاج لسياسة أمنية منهجية واستثنائية سمح بها قانون مكافحة الإرهاب وأجواء الخوف المجتمعي، مما يجعلها تشكل “مرحلة” جديدة من انتهاكات حقوق الإنسان، وإن كانت تحت غطاء قانوني مختلف.

4- الإشكال الجوهري: جبر الضرر بين الماضي والحاضر

يضعنا استثناء ملف السلفيين أمام إشكالية نظرية وعملية عميقة:

النموذج التراجعي: هو النموذج الذي تبنته هيئة الإنصاف والمصالحة، حيث يركزجبر الضرر حصريًا على انتهاكات “ماضية”، تم إقفال بابها زمنيًا ورمزيًا (1999). هذا النموذج يريح الدولة لأنه يحصر مسؤوليتها في الفترات التاريخية المنتهية.

النموذج التقدمي أو الهيكلي: يفترض هذا النموذج أنجبر الضرر يجب أن يكون عملية مستمرة تهدف إلى منع تكرار الانتهاكات في المستقبل، بغض النظر عن هوية الضحايا أو التهم الموجهة إليهم. السؤال المركزي هنا: هل الهدف من المصالحة هو طي صفحة الماضي فقط، أم أيضًا بناء ضمانات حقيقية لعدم العودة إليه، حتى تحت ذرائع مكافحة الإرهاب؟

الاستنتاج الذي تدفع إليه هذه الإشكالية هو أن استثناء معتقلي التيار السلفي الجهادي لم يكن مجرد حذف إداري، بل كان خيارًا استراتيجيًا يعيد إنتاج ثنائية “الضحية الشرعية” و”الضحية غير الشرعية”. لقد كشفت هذه القضية أن مفهوم “الانتهاك الجسيم” قد يكون خاضعًا للاعتبارات السياسية والأمنية السائدة، مما يضعف من فاعلية وآلية المصالحة كأداة شاملة لتحقيق العدالة الانتقالية، ويترك الباب مفتوحًا لاستمرار انتهاكات حقوق الإنسان تحت مبررات جديدة.

5- الإشكال المفاهيمي: جبر الضرر وحدوده

يُعدّ مبدأ جبر الضرر إحدى الركائز الأساسية للعدالة الانتقالية، غير أنّ تطبيقه في التجربة المغربية أفرز جدلاً عميقاً حول حدوده ومجالاته. فالخلاف لا ينحصر في آليات التعويض أو في حجم المستفيدين منه، بل يتجاوز ذلك إلى البعد الفلسفي للعدالة الانتقالية ذاتها: هل هي آلية ظرفية تُعنى حصراً بماضي “سنوات الرصاص”، أم إطار مؤسساتي دائم لمعالجة كل انتهاك جسيم لحقوق الإنسان، بغضّ النظر عن سياقه التاريخي أو مبرراته السياسية والأمنية؟

التصور الرسمي:

المقاربة التي تبنتها هيئة الإنصاف والمصالحة – والتي وجدت صداها في الخطاب الرسمي – حصرت جبر الضرر في معالجة الانتهاكات السياسية التي جرت بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي. وقد استند هذا التصور إلى منطق “تأطير الذاكرة الجماعية” ضمن نطاق زمني مغلق، يهدف إلى تحقيق مصالحة وطنية مع مرحلة بعينها، دون الانزلاق إلى ملفات جديدة قد تُهدد استقرار الدولة أو تُحرجها دولياً في ظل ما بعد أحداث 11 سبتمبر و16 ماي 2003. وبهذا المعنى، فإن الانتهاكات اللاحقة – المرتبطة بالسياسات الأمنية لمكافحة الإرهاب – وُضعت خارج أجندة العدالة الانتقالية.

التصور النقدي:

الخطاب النقدي – الذي تبنته منظمات حقوقية وعدد من الفاعلين الأكاديميين – يرى أن العدالة الانتقالية، إذا ما أُريد لها أن تكون فعلاً إطاراً لتعزيز دولة القانون، فلا يجوز اختزالها في وظيفة “تصالح مع الماضي” فقط. بل يجب أن تتحول إلى آلية مستمرة قادرة على استيعاب كل الانتهاكات، بما في ذلك تلك الناتجة عن “الحرب على الإرهاب”. ففلسفة العدالة الانتقالية تقوم، في جوهرها، على مبدأ عدم التكرار وضمان عدم الإفلات من العقاب، وهو ما لا يتحقق إذا تم استثناء فئات جديدة من الضحايا بحجة اختلاف السياق السياسي أو الأمني.

الإشكال المحوري:

هنا يبرز السؤال الإشكالي: هل يُعتبر “ضحايا مكافحة الإرهاب” فئة مستقلة تقع خارج نطاق العدالة الانتقالية، أم أن مبدأ الإنصاف والمساواة أمام القانون يقتضي شمولهم بجبر الضرر أسوةً بضحايا “سنوات الرصاص”؟

إذا أُدرجوا خارج العدالة الانتقالية، فهذا يعني تكريس منطق انتقائي قد يقوض الثقة في مؤسسات الدولة ويؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الحلقة من الانتهاكات.

أما إذا شُملوا ضمن إطارها، فإن ذلك من شأنه أن يُرسّخ العدالة كمنظور شامل لا يقف عند حدود الماضي، بل يمتد إلى الحاضر والمستقبل، بما يعزز الشرعية الحقوقية للدولة ويمنح مشروع العدالة الانتقالية مصداقية أكبر داخلياً وخارجياً.

وبالتالي، فإن النقاش حول جبر الضرر وحدوده ليس نقاشاً إجرائياً فحسب، بل هو نقاش مفاهيمي ويمس جوهر العدالة الانتقالية: هل هي حدث تاريخي منغلق، أم مسار مجتمعي مفتوح يتجاوز الأطر الزمنية الضيقة؟