يستعد المغرب لاحتضان موعدَين رياضيين بارزين: كأس الأمم الإفريقية سنة 2025، وكأس العالم لكرة القدم سنة 2030. تمثل هذه الفعاليات فرصة استثنائية لتعزيز صورة البلاد على المستوى الدولي، لكنها في الوقت ذاته تطرح سؤالاً محورياً غالباً ما يُغفل: مدى جاهزية المواطنين للمساهمة في فضاء عام منضبط، يعكس قيم الاحترام والمسؤولية.
وتكشف نتائج تقرير حديث صادر عن المركز المغربي للمواطنة (ماي 2025) حجم التحديات المطروحة. إذ أبرز التقرير تراجع الممارسات المدنية داخل الفضاء العام، مؤكدًا على الحاجة إلى خطة وطنية شاملة تهدف إلى إعادة الاعتبار للسلوك المدني وترسيخ ثقافة المواطنة.
وقد أُنجز الاستطلاع خلال الفترة ما بين فبراير ومارس 2025، وشمل 1.173 مشاركاً، كانت الغالبية منهم من الذكور (76%)، فيما بلغت نسبة الحاصلين على شهادات جامعية 44%، مع تمثيل وازن للطبقة المتوسطة الحضرية، خاصة في مدن الرباط والدار البيضاء وفاس. وقد المحور هذا الاستطلاع على قياس علاقة المغاربة بالمدنية، ورصد ممارساتهم اليومية، وتحديد الآليات الكفيلة بتقوية ثقافة المواطنة الفاعلة.
ويأتي هذا التقرير في سياق تحولات اجتماعية عميقة، أبرزها تسارع وتيرة التمدّن، وتصاعد النزعة الفردانية، وتراجع آليات الضبط الاجتماعي التقليدية. ومن هذا المنطلق، لا يكتفي التقرير بتشخيص الواقع، بل يتجاوز ذلك إلى تحليل اسباب بعض الظواهر و اقتراح مبادرات إصلاحية.
وتُظهر خلاصات التقرير صورة متناقضة؛ فبينما تستمر بعض الممارسات الإيجابية، يبرز عجز واضح عن ترسيخ السلوك المدني في مجالات عدة. ففي العلاقات الاجتماعية، لوحظ تراجع كبير في مظاهر اللباقة واحترام الجوار والنساء، مع تسجيل حد أدنى من الاهتمام بكبار السن والأشخاص في وضعية إعاقة.
أما في المجال البيئي، فقد جاءت المؤشرات صادمة: 74% من المستجوبين يقرّون برمي النفايات في الشوارع، و70% يشيرون إلى تخريب التجهيزات العمومية. كما برز ضعف الانضباط الجماعي في احترام المواعيد، وقوانين السير،. وعلى صعيد الظواهر الحضرية، فإن احتلال الملك العمومي (93%)، والتسوّل (92%)، والغش التجاري (83%)، تظل من أبرز المشكلات التي تؤثر على صورة المغرب داخلياً وخارجياً.
ومع اقتراب موعد كأس العالم 2030، تبرز هذه المؤشرات كإشارة إنذار قوية، خصوصا فيما يتعلق بصورة المغرب لدى زواره الأجانب، الذين سيقيمون البلاد ليس فقط على جودة الملاعب ووسائل النقل، بل أيضاً على مستوى الانضباط العام، ونظافة الفضاءات، واحترام القوانين، وأمان الشوارع. وهذه المعطيات تجعل من السلوك المدني ورشاً استراتيجياً، يوازي أهمية الاستثمارات في البنية التحتية، ويحدد قدرة المغرب على تحويل الأحداث الرياضية إلى إرث مجتمعي دائم.
ومن جهة أخرى، يفسر التقرير هذه الظواهر بثلاثة عوامل رئيسية مترابطة: أولها تعثّر مؤسسات التنشئة الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة والنسيج الجمعوي، التي لم تعد قادرة على نقل القيم الأخلاقية والمواطِنة العملية بفاعلية؛ وثانيها ضعف تطبيق القانون وانتقائيته، مما يغذي شعوراً عاماً بالإفلات من العقاب؛ وثالثها الطابع الطقوسي والشكلي للتدين، الذي لا يتحول غالبا إلى إطار أخلاقي يضبط السلوك الجماعي. وقد لخص رئيس المركز المغربي للمواطنة هذا الوضع بقوله: “السلوك المدني الذي كان في الماضي عفوياً، أصبح اليوم في حاجة إلى أن يُدرّس”.
وتنبع من هذه القراءة الحاجة إلى تدخلات عملية، فإعادة الاعتبار للسلوك المدني لا يمكن أن تتم بمعزل عن التربية والقانون والتواصل والمشاركة المجتمعية.
ويقترح التقرير مجموعة من المداخل العملية التي يمكن تلخيصها في أربعة مستويات متكاملة: أولاً، التربية عبر إدماج مشاريع مواطناتية إجبارية في المدارس، وتكوين المدرسين في التربية المدنية، وإنشاء أندية للسلوك المدني داخل المؤسسات التعليمية؛ ثانياً، القانون من خلال تقوية الشرطة القريبة من المواطن، وتطبيق غرامات رادعة مع ضمان العدالة والمساواة أمام القانون؛ ثالثاً، التواصل عبر حملات توعوية واسعة موجهة للشباب وربط قيم المواطنة بالرياضة، تحت شعارات مثل “كأس نظيف” أو “مونديال مواطن”، مع إبراز النماذج الإيجابية للأحياء والمدن؛ وأخيراً، المشاركة المجتمعية من خلال إشراك الجمعيات المحلية، وتنظيم مسابقات بين الأحياء، وإحداث مرصد وطني للسلوك المدني.
وعلى هذا الأساس، يمكن للأحزاب السياسية أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز السلوك المدني، إذ تستطيع تحويل الالتزام بالمواطنة من شعار انتخابي إلى ممارسة فعلية عبر برامج وسياسات محددة. فالعمل الحزبي لا يقتصر على المنافسة على المقاعد البرلمانية، بل يمكن أن يصبح منصة للتربية على المسؤولية المدنية من خلال تنظيم ورشات تعليمية، حملات توعوية، ودعم مبادرات محلية تعزز الانضباط واحترام القانون في الأحياء والمدن. كما يمكن للأحزاب أن تكون وسيطًا بين المواطن والدولة لتسهيل مشاركة المجتمع في وضع القوانين المحلية ومراقبة تطبيقها، ما يخلق شعورًا بالمساءلة والمسؤولية الجماعية.
ومن جهة أخرى، يمتلك الإعلام، سواء التقليدي أو الرقمي، القدرة على تحفيز التغيير السلوكي بسرعة وفعالية. فالتغطية الإعلامية المستمرة للنجاحات في السلوك المدني أو التحذير من المخالفات تساهم في تشكيل وعي جماعي حول أهمية احترام الفضاء العام. أما شبكات التواصل الاجتماعي، فهي أداة مزدوجة؛ يمكن استثمارها لإطلاق حملات تفاعلية مبتكرة، تسلط الضوء على الممارسات الإيجابية، وتشارك قصصًا ملهمة من المواطنين كمثال يُحتذى به. وبالموازاة، يمكن لهذه المنصات مراقبة الانتهاكات وإثارة النقاش حولها، ما يخلق نوعًا من الرقابة المجتمعية الرقمية ويحفز المسؤولية الفردية والجماعية.
إن السلوك المدني ليس مجرد مسألة شكلية، بل هو ركيزة أساسية للعيش المشترك ومقياس لمصداقية الأمم. وإذا نجح المغرب في تحويل كأس الأمم الإفريقية 2025 وكأس العالم 2030 إلى فرص لتربية المواطنين على المسؤولية والانخراط الفاعل، فسيحقق إرثاً جماعياً مستداماً. فالرهان الحقيقي يتجاوز الملاعب والطرق، ويتعلق ببناء إنسان مواطن يحترم القانون والفضاء العام، ليصبح المغرب في القرن الحادي والعشرين نموذجاً لهوية جماعية أصيلة، تقوم على الاحترام والمسؤولية والكرامة المشتركة.
خديجة الكور، باحثة في علم الاجتماع