“عمال وفلاحين وطلبة..” لم تكن مجرد لازمة في أغنية الشيخ إمام، بل كانت علامة رمزية لعصر كامل، حيث كانت السياسة امتدادا للنضال الاجتماعي، وحيث كانت التمثيلية في معناها الأصلي ترجمة لصوت الجماعة، لا هندسة فوقية للمقاعد. غير أن المفارقة المغربية تجعل هذه اللازمة الشهيرة صالحة اليوم لقراءة واحدة من أغرب بدع الحياة البرلمانية: لائحة تمثيل الشباب والأطر.
قد يبدو توصيف لائحة تمثيل الشباب بأنها “بدعة سياسية” قاسيا، بل وربما متعسفا للوهلة الأولى. غير أن وضعها في السياق السياسي الذي أنتجها، والوقوف عند النتائج التي أفضت إليها، والأسباب التي عجلت من قبل بإلغائها، ثم الخلفيات التي تتحكم اليوم في إعادة النقاش حولها، علاوة على عدم وجود مثيل لها في غالبية دول العالم، يجعل هذا التوصيف أقرب إلى الحقيقة منه إلى المبالغة.
أولا: منذ إدراجها لأول مرة ضمن الهندسة الانتخابية في سياق التحضير القانوني لانتخابات 2011، لم تكن هذه اللائحة نتاج خيار ديمقراطي أصيل ينبع من منطق التداول والتمثيل الشعبي، بقدر ما كانت ثمرة تفاهم سياسي ظرفي، هدفه امتصاص مطالب آنية وتهدئة جزء من الاحتقان الاجتماعي والسياسي الذي برز بقوة بعد حراك 2011. لذلك، فقد كانت موضوع جدل واسع بين من اعتبرها آلية ضرورية لتجديد النخب السياسية وإدماج الطاقات الصاعدة في البرلمان، وبين من رآها مجرد امتياز ظرفي يفتقر إلى أي سند دستوري حقيقي.
ثانيا: ما سبق أن عبر عنه المجلس الدستوري في اجتهاد واضح بخصوص اللائحة الوطنية للنساء، حين اعتبر أن تخصيص مقاعد برلمانية عبر لائحة وطنية للنساء له طابع مؤقت وانتقالي، الغاية منه تشجيع التأهيل السياسي، ريثما تتمكن الأحزاب السياسية من استيعاب مبدأ المناصفة المنصوص عليه دستوريا وإدماج النساء بشكل طبيعي في لوائحها المحلية والجهوية. بمعنى أن القضاء الدستوري اعتبر أن الأصل هو المساواة في الترشح عبر القنوات الانتخابية العامة، وأن التمييز الإيجابي لا يجوز أن يتحول إلى قاعدة دائمة، بل يجب أن يظل وسيلة انتقالية لإصلاح اختلالات قائمة.
ومثل هذا الاجتهاد، حتى ولو هم اللائحة الوطنية للنساء، يجعل أي خطوة لإحياء لائحة تمثيل الشباب تبدو أكثر هشاشة من غيرها، إذ إنها لا ترتكز على مبدأ دستوري صريح كما هو الحال بالنسبة لمبدأ المناصفة، ولا تجد في الدستور نصا صريحا يبرر استمرارها. فهي في الأصل جاءت في لحظة سياسية استثنائية، كحل ظرفي لتهدئة المطالب الاجتماعية والسياسية التي برزت بعد الحراك، من خلال إدماج الشباب في الحياة البرلمانية ومنحهم موقعا في الواجهة. غير أن التجربة أبانت عن محدوديتها، ولم تفض إلى حصيلة إيجابية تبرر استمرارها، ما يجعل التفكير في إحيائها من جديد لا يكون سوى إعادة إنتاج لآلية ثبت فشلها، وتكريسا لمنطق الترقيع بدل التوجه نحو إصلاح انتخابي حقيقي.
ثالثا: إن التخلي عن هذه اللائحة في السابق يفترض أنه انطلق من تقييم دقيق لعقد من تطبيق هذه التجربة، واستنتاج أن الحصيلة لم تشجع على الإبقاء عليها. فالكثير من الشباب الذين دخلوا البرلمان عبر هذه البوابة لم يتمكنوا من فرض حضور نوعي، ولم يتركوا بصمة متميزة في النقاش العمومي أو التشريع أو الرقابة. بل إن عددا منهم غاب عن المشهد بمجرد انتهاء ولايته، وكأن وجوده كان رهينا بهذا الامتياز الاستثنائي. وهذا يطرح سؤالا كبيرا حول جدوى هذه الآلية، إذا لم تكن قادرة على إنتاج نخب سياسية مؤهلة، وإذا لم تضف قيمة ملموسة للعمل البرلماني.
رابعا: إن اللائحة الوطنية للشباب تحولت، مع مرور الوقت، إلى وسيلة تستعملها الأحزاب السياسية لإرضاء توازناتها الداخلية، أكثر مما هي قناة لاختيار الكفاءات. في كثير من الحالات، لا يخضع اختيار المرشحين لمعيار الاستحقاق أو التكوين السياسي، بل لمنطق الولاءات التنظيمية أو العائلية أو المحلية. وهذا يحول دون أن تحقق هذه اللائحة هدفها الأساسي المتمثل في إدماج نخبة جديدة قادرة على تجديد الخطاب السياسي وتغيير طرق العمل داخل المؤسسة التشريعية.
خامسا: إن فكرة تخصيص مقاعد للشباب تطرح إشكالا مبدئيا، هو مسألة المساواة بين المواطنين. فالشباب مواطنون مثل غيرهم، لهم الحق في الترشح عبر اللوائح المحلية والجهوية، ولا يوجد في الدستور ما يميزهم صراحة كفئة تحتاج إلى معاملة استثنائية، وإلا وجب أن نحول البرلمان، ومجلس النواب بالذات، إلى فسيفساء فئوية تقوم على التمثيل الخاص لا على التمثيل العام للأمة.
هكذا، يظهر كيف أن تجربة تفعيل هذه الآلية لم تثبت أنها أدت بالفعل وظيفتها الأصلية في فتح الباب أمام هذه الفئة من الشباب للمشاركة الفعلية، بل كشفت، في كثير من الأحيان، أنها تحولت إلى قناة للريع الحزبي وتوزيع الغنائم بين الأجهزة التنظيمية. فبدلا من أن ينظر إلى هؤلاء البرلمانيين الشباب كرموز للتجديد، أصبح يتم تمثلهم باعتبارهم جزءا من آلية لتوزيع الامتيازات. وهذا يسيء إلى صورة الشباب أكثر مما يخدمها، ويحول دون تحولهم إلى قوة تغييرية داخل البرلمان.
لا ينفصل النقاش حول “كوطا الشباب” عن فكرة “تمثيلية الأطر”، وهي بدعة أخرى طرحت في بعض المحطات السياسية ويعاد اليوم تسويقها كآلية لتخصيص مقاعد لفئة معينة تحت مبرر الكفاءة أو التخصص. فكلا الصيغتين تؤديان إلى تحويل البرلمان من مؤسسة تمثيلية للأمة إلى فضاء فئوي قائم على منطق المحاصصة. ففي الوقت الذي كان يفترض أن يقوم التمثيل البرلماني على أساس التنافس الحر والمفتوح بين جميع المواطنين، هناك محاولات لفرض آليات استثنائية تضعف مبدأ المساواة، وتكرس منطق الريع السياسي داخل الأحزاب، كما تجعل البرلمان، الذي يفترض أن يكون مؤسسة تمثيلية للأمة بكل أطيافها، يتحول إلى فضاء فئوي قائم على المحاصصة.
فبقدر ما أثبتت تجربة “كوطا الشباب” محدوديتها، فإن فكرة تمثيلية الأطر لا تقل عنها إشكالية، إذ إنها تحول الكفاءة من قيمة معيارية يفترض أن تكون حاضرة في لوائح الترشيح العادية إلى مجرد بطاقة امتياز تمنحها الدولة أو الأحزاب لفئة بعينها. وهو ما يعكس، في العمق، أزمة بنيوية في النظام الحزبي، الذي يعجز عن تجديد نخبه بشكل طبيعي، فيبحث باستمرار عن صيغ ترقيعية خارج منطق الديمقراطية الداخلية.
لذلك، يصعب الاقتناع بأن تجدد النقاش حول عودة تجربة لائحة تمثيلية الشباب أو تبني لائحة تمثيلية الأطر بمناسبة التحضير القانوني للانتخابات القادمة يعكس وعيا جديدا بأهمية إدماج الشباب أو الأطر في المؤسسات. بل إن الأمر يظل، في العمق، تجسيدا لاستمرار منطق الترتيبات الفوقية التي تسعى إلى إعادة إنتاج نفس الآليات الترقيعية، عوض التفكير في إصلاح انتخابي جذري يفتح المجال أمام تمثيل حقيقي قائم على التنافس الديمقراطي.
إن هذا الوضع يكشف عن عجز بنيوي في النظام الحزبي المغربي، حيث الأحزاب السياسية التي لا تقوى على تجديد نخبها عبر آلياتها الداخلية تلجأ دوما إلى المطالبة بمظلات استثنائية، سواء تعلق الأمر بالنساء أو بالشباب أو بالأطر. وهذا العجز هو ما يفسر إصرار بعض الفاعلين على إعادة إدراج لائحة للشباب أو طرح فكرة تمثيلية الأطر، بدلا من مواجهة الأزمة الحقيقية المتمثلة في انغلاق الهياكل الحزبية، وغياب التداول الداخلي، وضعف التكوين السياسي.
صحيح أن هناك إشكالا يتعلق بصعوبة اختراق الشباب والأطر للوائح الحزبية العادية بسبب هيمنة الأعيان، لكن الحل لا يكون بإحداث قناة خاصة بهم، بل بإصلاح البنية الحزبية وضمان ديمقراطية داخلية حقيقية تسمح لهم بالصعود بشكل طبيعي، واحتلال الصفوف الأولى في قائمة المرشحين باسمها. فإذا كان الهدف حقا هو تمثيل الشباب أو الأطر، فإن البديل الحقيقي لا يكمن في الإبقاء على هذه اللوائح أو حذفها فقط، بل في إصلاح سياسي عميق يجعل من هذه الفئات فاعلين طبيعيين في المشهد السياسي، لا مستفيدين من استثناءات ظرفية.
ويستلزم ذلك مراجعة القواعد القانونية الناظمة لعمل الأحزاب السياسية بما يضمن تعزيز الديمقراطية الداخلية والشفافية في الترشيحات، ويكفل فرصا متكافئة للوصول إلى مواقع القرار، وامتلاك الشجاعة لمحاصرة ظاهرة التهافت على ترشيح الأعيان فقط بناء على قدرتهم على الفوز بالمقاعد البرلمانية، دون أي اعتبار للكفاءة أو التأطير السياسي أو التجديد المؤسساتي.
كما يتطلب إعادة النظر في طرق التكوين السياسي داخل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، حتى يصبح الشباب والأطر مؤهلين لممارسة أدوار سياسية متقدمة. بل إن الأمر يحتاج أيضا إلى إعادة الاعتبار للعمل البرلماني ذاته، ليكون محفزا على الانخراط لا مجرد محطة عابرة للوجاهة أو الامتياز.
إن مثل هذه الرؤية تبدو هي الكفيلة بإبراز أن النقاش حول اللائحة الوطنية للشباب أو تمثيلية الأطر ليس نقاشا تقنيا فحسب، بل هو تعبير عن سؤال سياسي أكبر: كيف نجدد نخبنا؟ هل نستمر في اللجوء إلى قنوات استثنائية مؤقتة، أم نبني مسارا طبيعيا لتأهيل الأجيال الجديدة عبر أحزاب قوية وديمقراطية؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو الذي سيحدد مستقبل المشاركة السياسية في المغرب، وهو الذي سيحسم ما إذا كان الشباب والأطر سيظلون موضوع “تمييز إيجابي” بلا أفق، أم سيصبحون فاعلين طبيعيين في المشهد السياسي على أساس الكفاءة والاستحقاق، مثلما هو قائم في معظم بلدان العالم، التي تجاوزت ليس فقط النقاش حول تمثيلية الشباب والأطر، وإنما أيضا فكرة الكوطا النسائية نفسها، إذ لم تعد المرأة بحاجة إلى تمثيل استثنائي لتكون حاضرة في السياسة.