منتدى العمق

نبوءة النهاية المحققة لذاتها… هل يحفر الاحتلال قبره بيديه؟

تخيل معادلة سياسية أشبه بمشهد من رواية فرانتس كافكا السوداء، حيث كل شيء يبدو معقدا لدرجة الجنون، والبيروقراطية تلتهم أي محاولة لفهم ما يحدث، والشخصيات محاصرة في نظام لا عقلانية له ولا مفر منه. في هذا المشهد العبثي، يواصل الاحتلال الإسرائيلي رسم خريطة طريق لنهايته بأيديه، كمن يحاول رسم طريقه في ضباب كثيف وهو يرتدي نظارات عمياء. كلما ازدادت وحشيته، ازدادت عزلته، وكلما حاول التمسك بالقوة والسيطرة، ازدادت المقاومة ضده شراسة. وكأن الكون يضحك عليه بسخرية قاسية، كل خطوة يظنها تضمن له البقاء، هي نفسها التي تدفعه نحو الانهيار. نبوءة تتحقق ذاتها بطريقة غريبة، حيث يصبح السعي المحموم للأمن والهيمنة أشبه بمحاولة ركوب سلم كهربائي متجه إلى الأسفل، كلما جاهد صعودا، كلما سرع به السلم نحو القاع.

والغريب، أن هذا الكيان الذي خرج للعالم مدعيا أنه ملاذ آمن لليهود، أصبح اليوم يثبت للجميع أنه أذكى من نفسه، يحولهم إلى رهائن لسياساته العدوانية. بدل أن يكون حصنا يحميهم، أصبح فخا يلتهمهم، وبدل أن يضمن لهم الاستقرار، أصبح مصنعا لا ينتهي من العنف والفوضى. كل قنبلة تسقطها طائراته على غزة، وكل بيت يهدمه جنوده في الضفة، وكل طفل فلسطيني يقتل، كأنه يقول لهم: ها أنا أغرس يدي في تراب نهايتي، وأبني قبري بحماقتي.

عندما تصبح الأرقام كابوسا

لطالما اعتمد المشروع الصهيوني على أكذوبة ديموغرافية كبرى، مفادها أن الهجرة اليهودية ستضمن له تفوقا عدديا دائما على السكان الأصليين. لكن الأرقام اليوم تحكي قصة مختلفة تماما. وفقا للإحصائيات الحديثة من المكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد الفلسطينيين في إسرائيل وقطاع غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية المحتلة يقدر الآن بأكثر من 5.3 مليون نسمة، متجاوزا السكان اليهود البالغ عددهم 5.2 مليون. وتشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2035، ستبلغ نسبة السكان اليهود في إسرائيل 46% فقط. هذه الأرقام ليست مجرد أرقام جافة، بل هي إعلان صريح عن فشل المشروع الاستعماري في تحقيق هدفه الأساسي القائم على إقامة دولة يهودية ذات أغلبية يهودية واضحة. اللحظة التي تتحول فيها الديمقراطية اليهودية إلى مفهوم متناقض مع نفسه، حيث لا يمكن أن تكون ديمقراطية حقيقية مع وجود أغلبية محرومة من حقوقها، ولا يمكن أن تبقى يهودية مع تزايد النسبة العربية. وبحسب إحصائيات المكتب المركزي الفلسطيني للإحصاء، يبلغ عدد الفلسطينيين في العالم حوالي 14.8 مليون نسمة في منتصف 2024، نصفهم خارج فلسطين التاريخية. هؤلاء الملايين الستة عشر ليسوا مجرد أرقام في سجل، بل هم ذاكرة حية وحق مؤجل، وكل واحد منهم يحمل مفتاح بيت جده في يافا أو حيفا أو القدس.

الأدهى من ذلك أن السياسات الإسرائيلية تساهم بشكل مباشر في تسريع هذا التحول الديموغرافي. فالحروب المتكررة على غزة، بدلا من أن تؤدي إلى هجرة الفلسطينيين كما كان مخططا لها، تؤدي إلى تعميق جذورهم في الأرض ورفع معدلات الولادة كنوع من المقاومة الديموغرافية. رغم أن سكان قطاع غزة انخفض بنسبة 6% بنهاية 2024 بسبب العدوان الإسرائيلي، إلا أن هذا الانخفاض المؤقت لا يغير من الاتجاه العام للنمو الديموغرافي الفلسطيني. الحسابات الديموغرافية الخاطئة ليست مجرد خطأ في التقدير، بل هي جوهر الأزمة الوجودية التي يواجهها الكيان الصهيوني، حيث بني هذا المشروع على افتراض أن بإمكانه محو شعب من الوجود أو تهجيره، لكنه اصطدم بحقيقة بسيطة، الشعوب لا تموت، والأرض لا تنسى أبناءها. واليوم، بعد أكثر من سبعة عقود من المحاولات، يجد نفسه محاصرا بالأرقام التي تنذر بنهايته الحتمية.

عندما تصبح القوة نقطة ضعف

في تناقض صارخ مع منطق القوة التقليدي، تحولت الآلة العسكرية الإسرائيلية من مصدر قوة إلى مصدر ضعف، ومن ضمانة للأمن إلى مولّد دائم للمقاومة. أشبه بمن يحاول إطفاء النار بالبنزين، كلما اعتقد أنه يسيطر على الموقف، اشتعلت النيران أكثر، وارتد لهيبها عليه قبل غيره.

حوالي 60% من القتلى كانوا نساء وأطفالا وكبار السن، وقد نجم العدد الكبير من الضحايا المدنيين عن هجمات مباشرة أو غير متناسبة أو عشوائية. هذه الإحصائية المروعة من تقرير منظمة العفو الدولية تحت عنوان “إذا كان الاتحاد الأوروبي لن يوقف إبادة إسرائيل في غزة، فعلى الدول الأعضاء أن تتحرك منفردة”، تكشف عن طبيعة الحرب الإسرائيلية الحقيقية، أنها ليست حربا ضد الإرهاب كما تدعي، بل حرب إبادة ضد شعب أعزل.

لكن المفارقة تكمن في أن هذه الوحشية، التي يفترض بها أن تكسر إرادة المقاومة، تحقق العكس تماما. فكل طفل يقتل في غزة يتحول إلى عشرة مقاومين محتملين، وكل منزل يهدم يصبح رمزا لجريمة لا تنسى. الذاكرة الجمعية للشعوب أقوى من كل الطائرات الحربية مجتمعة، والظلم يولد المقاومة كما يولد الضغط الانفجار كما يولد العنف العنف. ولعل أكبر دليل على فشل استراتيجية القوة المفرطة هو تصاعد المقاومة بعد كل عدوان إسرائيلي. لم تعد المقاومة الفلسطينية تقتصر على الأراضي المحتلة، بل انتشرت لتشمل الجامعات الأمريكية والأوروبية، والشوارع العربية والإسلامية، بل وحتى داخل الكيان نفسه حيث ترتفع أصوات ضباط الاحتياط وأقارب الأسرى المطالبين بوقف الحرب.

وثقت منظمة الحق أكثر من 1000 حالة تحريض ونية إبادة جماعية في تحقيق تحت عنوان ” سجل بالتصريحات الإسرائيلية الداعية إلى الإبادة في غزة”، تراوحت من منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي إلى مقابلات تلفزيونية وبيانات رسمية أدلى بها سياسيون ومسؤولون عسكريون وصحفيون وشخصيات عامة مؤثرة. هذا التوثيق الدقيق لجرائم الحرب والتحريض على الإبادة يشكل أرشيفا قانونيا سيستخدم حتما في المحاكم الدولية، فكل تصريح عنصري وكل دعوة للقتل تسجل اليوم في سجل التاريخ، وستكون دليل إدانة في محاكمة حتمية.

أما على الصعيد الاستراتيجي، فإن الاعتماد المفرط على القوة العسكرية أدى إلى إهمال البناء الداخلي والتماسك المجتمعي. تقدر الأمم المتحدة أن حوالي 1.9 مليون شخص في غزة نزحوا داخليا، معظمهم من النساء والأطفال، لكن النزوح لا يقتصر على الفلسطينيين وحدهم. فالمجتمع الإسرائيلي نفسه يعيش حالة نزوح داخلي، حيث هاجر مئات الآلاف من سكان الشمال خوفاً من صواريخ حزب الله، وأصبحت المدن الجنوبية أشباح مدن بعد 7 أكتوبر. إن آلة القتل والتدمير الإسرائيلية تشبه السرطان الذي ينمو في الجسد، كلما ازداد حجمها، ازداد استنزافها للطاقات الحيوية للكيان. فالميزانية العسكرية الضخمة تأتي على حساب التعليم والصحة والبنية التحتية، والخدمة العسكرية الإلزامية تحرم الاقتصاد من القوى العاملة الشابة، والحروب المتكررة تدمر صورة الكيان دوليا وتعزله عن العالم الحضاري.

من حليف استراتيجي إلى عبء سياسي

في أحد التحولات الأكثر دراماتيكية في التاريخ السياسي المعاصر، نشهد اليوم تحول الكيان الإسرائيلي من حليف استراتيجي لا غنى عنه، إلى عبء سياسي وأخلاقي يثقل كاهل داعميه. هي عملية تآكل بطيئة لكن مستمرة، تذكرني بانهيار جدار برلين، يبدو متماسكا من الخارج، لكنه ينهار من الداخل تحت وطأة تناقضاته الخاصة. الولايات المتحدة، الحامي التقليدي للكيان الصهيوني، تواجه اليوم مأزقا حقيقيا. فمن جهة، تضغط عليها الالتزامات التاريخية واللوبي الصهيوني لدعم إسرائيل، ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطا متزايدة من الرأي العام الأمريكي، خاصة بين الشباب والأقليات، الذين يرون في السياسة الأمريكية تجاه فلسطين تناقضا صارخا مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا ما يبرزه استطلاع للرأي أجرته جامعة هارفارد الأميركية بالتعاون مع مؤسسة هاريس، أن ما يقارب 60% من الشباب الأميركيين المنتمين إلى جيل “Z” يفضلون حركة المقاومة الإسلامية حماس على إسرائيل في حربها على غزة.

إسرائيل ليست وحيدة فعلا، رغم امتناع الولايات المتحدة عن التصويت في الأمم المتحدة، لكن منع تعميق شعورها بالعزلة يعتمد على حكمة نتنياهو في فهم حدود نفوذه. هذا التحليل من منتدى السياسة الإسرائيلية في مقال منشور تحت عنوان ” جعل “إسرائيل وحيدة” نبوءة محققة لذاتها” يكشف عن قلق إسرائيلي متزايد من احتمال فقدان الدعم الأمريكي، وهو القلق الذي يتحول تدريجيا إلى حقيقة. فالسياسة الأمريكية تجاه الكيان لم تعد تحظى بالإجماع الذي كانت تتمتع به في السابق. في الكونغرس، نرى تزايدا في أصوات النقد، وفي الشارع الأمريكي، نشهد مظاهرات مليونية مؤيدة لفلسطين. حتى داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، هناك أصوات تتساءل عن جدوى دعم كيان يجر أمريكا إلى صراعات لا نهاية لها في الشرق الأوسط.

أما أوروبيا، فالوضع أكثر تعقيدا. فبينما تحافظ الحكومات الأوروبية على موقف دبلوماسي متوازن ظاهريا، نرى تآكلا مستمرا في الدعم الشعبي لإسرائيل. في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، تتصاعد المطالبات بفرض عقوبات على الكيان، ووقف صادرات السلاح إليه، ومقاطعة منتجاته. ولعل الأخطر من كل ذلك هو تآكل الموقف الإسرائيلي في المحافل الدولية. في الأمم المتحدة، يواجه الكيان عزلة متزايدة، حيث حتى الدول التي كانت تتحفظ على إدانة إسرائيل في السابق، باتت تصوت ضدها. في محكمة العدل الدولية، تواجه إسرائيل اتهامات بارتكاب الإبادة الجماعية. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، تمرر قرارات بأغلبية ساحقة تدين السياسات الإسرائيلية.

في مساء الاثنين الموافق ل 4 أغسطس 2025، قال نتنياهو إن قرارا اتخذ بشأن الاحتلال الكامل لغزة، بما في ذلك المناطق التي يعتقد أن رهائن حماس محتجزون فيها. هذا التصريح، الذي قد يبدو انتصارا، لكن في الحقيقة اعتراف بالفشل الاستراتيجي. فالحديث عن الاحتلال الكامل لغزة يعني الاعتراف بأن كل الحروب السابقة فشلت في تحقيق أهدافها، وأن الحل الوحيد المتبقي هو العودة إلى نقطة البداية، الاحتلال المباشر بكل تكاليفه الباهظة. لكن المفارقة أن هذا الحل سيزيد من عزلة إسرائيل دوليا. فاحتلال غزة بالكامل يعني تحمل المسؤولية عن مليوني فلسطيني في ظروف إنسانية كارثية، وهو ما سيحول إسرائيل إلى دولة فصل عنصري بامتياز، غير قادرة على إخفاء طبيعتها الاستعمارية خلف أوراق التوت الدبلوماسية. المأزق الدولي الذي يواجهه الكيان الصهيوني ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هو تعبير عن تحول جذري في موازين القوى العالمية وفي الوعي الإنساني. العالم اليوم أكثر ترابطا وشفافية، والجرائم لا يمكن إخفاؤها أو تبريرها كما كان في الماضي. وكل يوم يمر، يزداد ثمن دعم الكيان الصهيوني، ويتآكل المبرر لوجوده.

نحو نهاية حتمية

في نهاية هذا التحليل، أجد نفسي أمام مشهد سياسي يشبه إلى حد كبير نهاية الأنظمة الاستعمارية الكلاسيكية. فكما انهار الاتحاد السوفياتي تحت وطأة تناقضاته الداخلية، وكما سقط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، يسير الكيان الصهيوني بخطى ثابتة نحو نهايته المحتومة، محققا بذلك نبوءة النهاية التي رسمها لنفسه بيديه. التناقضات التي يعيشها هذا الكيان اليوم ليست مجرد أزمات عابرة يمكن حلها بالمزيد من القوة أو بالمناورات السياسية، بل هي تناقضات بنيوية في صميم المشروع الصهيوني نفسه. فلا يمكن بناء دولة ديمقراطية على أسس عنصرية، ولا يمكن ضمان الأمن بالعدوان المستمر على الجيران، ولا يمكن تحقيق السلام بالحرب الدائمة. الأرقام الديموغرافية تتحدث بوضوح، الزمن ليس في صالح المشروع الصهيوني. والآلة العسكرية التي كانت مصدر قوة، تحولت إلى مصدر نزيف مستمر للموارد والطاقات. والدعم الدولي، الذي كان أساس البقاء، يتآكل يوما بعد يوم في عالم لم يعد يقبل المعايير المزدوجة ولا يصدق الأكاذيب المعلبة. لكن ربما تكون الضربة القاضية هي فقدان الكيان لمبرر وجوده الأخلاقي والسياسي. قد نشأ هذا المشروع ادعاء أنه حل لمعاناة اليهود، لكنه تحول إلى مصدر معاناة للفلسطينيين وعبء على اليهود أنفسهم. وادعى أنه سيجلب الاستقرار للمنطقة، لكنه أصبح أكبر مصدر لعدم الاستقرار. وزعم أنه سيكون نور للأمم، لكنه أصبح رمزا للظلم والعدوان في نظر معظم شعوب العالم. نبوءة النهاية المحققة لذاتها ليست مجرد عنوان لمقالي، بل هو وصف دقيق لمسار سياسي حتمي. فكل قرار يتخذه هذا الكيان اليوم، من تصعيد الحرب في غزة إلى توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، من التصريحات العنصرية لقادته إلى السياسات التمييزية، كل هذا لا يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي تسريع عملية الانهيار الذاتي.

إن السؤال ليس ما إذا كان الاحتلال سينهار، بل متى وكيف. وكل الدلائل تشير إلى أن هذا اليوم بات أقرب مما يتصور كثيرون. فالتاريخ يعلمنا أن الأنظمة الاستعمارية، مهما بدت قوية ومتماسكة، تنهار بسرعة مذهلة عندما تصل إلى نقطة التشبع. ونحن اليوم نشهد علامات هذا التشبع في كل مكان، في الشوارع الإسرائيلية التي تشهد احتجاجات غير مسبوقة، وفي أروقة الكنيست حيث يتصاعد الخلاف بين الأحزاب، وفي الجيش الذي يرفض ضباطه الخدمة في المناطق المحتلة، وفي الشارع العالمي الذي يهتف من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر.

الاحتلال يحفر قبره بيديه، وكل يوم يضيف مجرفة تراب أخرى إلى هذا القبر. والسؤال الوحيد المتبقي هو: هل سيكون لدى العالم الشجاعة ليقول “رحم الله من عرف قدر نفسه”، أم أنه سيواصل تأجيل الحتمية التاريخية بثمن المزيد من الدماء البريئة؟

التاريخ سيحكم، والشعوب لا تموت، والحق مهما طال الليل لا بد أن يشرق فجره. وفلسطين، كما كانت دوما، ستبقى للفلسطينيين، مهما كلف ذلك من ثمن ومهما طال الطريق.