تشكل سنة 2025 محطة مفصلية في الحياة السياسية المغربية. فمع اقتراب الانتخابات التشريعية، تفرض مسألة مصداقية المؤسسات نفسها بقوة، خاصة بعد الخطاب الملكي السامي في 30 يوليوز،2025 الذي دعا الى إصلاح منظومة الانتخابات بما يضمن شفافية و نزاهة ومصداقية الاستحقاقات المقبلة.
وفي هذا السياق، جاء تقرير المركز المغربي للمواطنة، الذي أُعدّ في سنة 2025 وشمل 1200 مغربياً من مختلف الفئات العمرية والجغرافية والاجتماعية، ليكشف عن عمق أزمة الثقة التي لا تطال الأحزاب السياسية وحدها، بل تمتد الى النقابات و البرلمان والحكومة و الإعلام ومؤسسات وسيطة أخرى.
الأرقام دالة وصادمة حوالي 95% من المستجوبين يصرّحون بعدم ثقتهم في الأحزاب السياسية، وأكثر من 91% يعتبرون أداءها ضعيفاً. البرلمان يقيمه سلبياً 89,5% من المستجوبين و 87,3% يعتبرون اداء الحكومة ضعيفا. أما النقابات، التي يفترض أن تكون وسيطاً اجتماعياً، فلا تحظى إلا بنسبة ضئيلة من الآراء الإيجابية لا تتجاوز 15%. كما أن وسائل الإعلام لم تسلم بدورها من التشكيك في مصداقيتها، مما يعزز الإحساس بأن قنوات التمثيل والتعبير التقليدية لم تعد تؤدي وظائفها.
أما الانخراط الحزبي فضعيف للغاية، حيث يؤكد أكثر من تسعة مغاربة من أصل عشرة أنهم غير منتمين إلى أي حزب، ومن بين من سبق لهم الانخراط، اختار كثيرون الانسحاب بدعوى غياب الديمقراطية الداخلية، وضعف التمثيلية، والإقصاء. وعلى المستوى الانتخابي، تبقى المشاركة هشة؛ فحوالي 30% من المستجوبين لم يسبق لهم التصويت، وفي آخر انتخابات تشريعية لم تتجاوز نسبة المشاركة الوطنية 50,3%. هذه المؤشرات تعكس أزمة ثقة عميقة تطال المؤسسات التمثيلية والهيئات الوسيطة، وتضع موضع تساؤل الشرعية ذاتها التي يقوم عليها الفعل العمومي.
وتزداد خطورة هذه الأزمة في سنة انتخابية. فهي تهدد بشرعية البرلمان المقبل، وتضعف قدرة المؤسسات على قيادة الإصلاحات، وتعمّق الإحساس بالفجوة بين المواطنين والفاعلين السياسيين. كما تغذي أشكالاً بديلة من التعبير، خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يسود خطاب السخرية والرفض للأحزاب، بما يجعل الفضاء الرقمي بديلاً عن أشكال النضال التقليدي. ومن هنا، فإن الإشكال ليس تنظيمياً فحسب، بل هو بنيوي وثقافي يمس جوهر التمثيل السياسي ذاته.
إن تقرير المركز المغربي للمواطنة، رغم أهميته، يبقى محدوداً في مداه. لذلك تقتضي المعالجة توسيع زاوية النظر عبر استحضار تقارير وطنية أخرى أعدتها المندوبية السامية للتخطيط، والمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إضافة إلى تقرير النموذج التنموي الجديد، فضلاً عن دراسات مؤسسات دولية مثل البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. هذه التقارير مجتمعة بلورت جملة من الرافعات الاستراتيجية الكفيلة باستعادة الثقة.
تتمثل هذه الرافعات أولاً في تجويد الحكامة الداخلية للأحزاب: حصر مدة الانتدابات التمثيلية في ولايتين و إرساء الشفافية في اختيار المرشحين، نشر الحسابات المالية المدققة، وتشجيع تجديد النخب من خلال التكوين وإدماج الشباب والنساء. ثم تأتي ضرورة تقنين صارم لتمويل الحياة السياسية، عبر آليات مستقلة للمراقبة وآليات ردعية في مواجهة الخروقات. أما النظام الانتخابي فينبغي أن يضمن تمثيلية حقيقية للإرادة الشعبية، وذلك عبر الشفافية الكاملة في مراحل التصويت والفرز، وضمان تكافؤ الفرص في وسائل الإعلام، وتوسيع مجال المراقبة المستقلة.
كما أن مكافحة الفساد تبرز كأحد أهم الشروط لاستعادة الثقة. ويتطلب ذلك تعزيز استقلالية المؤسسات المكلفة بمحاربته، وإلزام المسؤولين المنتخبين والموظفين السامين بالتصريح العلني بممتلكاتهم، وتوسيع نطاق البيانات المفتوحة المتعلقة بالميزانيات والمشاريع العمومية، وإشراك المواطن في آليات التتبع والتقييم. وإلى جانب ذلك، فإن أداء الدولة في القطاعات الاجتماعية الأساسية ــ الصحة، التعليم، البنية التحتية، التشغيل يشكل اكبر مدخل لاسترجاع الثقة، إذ أن المواطن يربط الثقة بقدرة الدولة على توفير خدمات جيدة وعادلة.
ولا تقل أهمية عن ذلك مسألة المشاركة المواطِنة والمجتمع المدني، حيث تدعو مختلف التقارير إلى إرساء آليات مؤسساتية للتشاور العمومي، واعتماد تجارب الميزانيات التشاركية، وإحداث منصات رقمية للحوار، وتمكين الجمعيات من أدوار أقوى في الرقابة والمساءلة. كما أن إدماج الشباب والنساء يظل محورياً من خلال تخصيص حصص فعلية، وتوفير برامج مرافقة للتأهيل السياسي، وتعزيز التربية على المواطنة في المدارس والجامعات. أما الفضاء الرقمي، الذي قد يكون ساحة للتضليل بقدر ما يمكن أن يكون وسيلة للشفافية، فيجب توظيفه كأداة لإتاحة لتوفير المعلومات و المعطيات وتعزيز المشاركة الشعبية ومكافحة الأخبار الزائفة.
إن هذه المرحلة الدقيقة تتيح فرصة تاريخية لتحويل أزمة الثقة إلى ورش لإعادة تأسيس ديمقراطي شامل. ويتطلب ذلك ترتيب الأولويات: على المدى القصير، اتخاذ إجراءات ملموسة في مجال الشفافية و مباشرة إصلاحات مؤسساتية وهيكلية تتعلق بالتمويل والنظام الانتخابي والحكامة الداخلية للأحزاب؛ وعلى المدى البعيد، إرساء تحول ثقافي يقوم على التربية والقيم المدنية والمساءلة. إن الرد على هذه الأزمة لا يمكن أن يكون تقنياً فقط، بل يجب أن يكون سياسياً ورمزياً في العمق، هدفه إعادة بناء الجسر بين المواطن والمؤسسات في لحظة حاسمة من مسار التجربة الديمقراطية المغربية.
خديجة الكور، رئيسة منظمة النساء الحركيات