في زمن صار الإعلام فيه أشبه بسيف ذي حدين، يلمع في النهار ويقطر دماً في الليل، تلعب بعض الدول دور المايسترو في مسرحية سياسية طويلة لا نهاية لها. تعلو الأصوات من منابرها الإعلامية بشعارات الدفاع عن المظلومين والمستضعفين، بينما تحت الطاولة تُعقد صفقات لا يراها إلا من يعرف دهاليز السياسة وحبالها المتشابكة.
قطر، نموذجاً لا حصراً، تبدو كمن يقفز بخفة بين الحبلين .. حبل المقاومة وحبل التحالفات مع القوى العظمى. لكن، ومن سنن التاريخ، أن من يتأرجح طويلاً يفقد توازنه، ومن يخدع سامعيه كثيراً يفقد ثقتهم. في النهاية، الإعلام لا يحمي من السقوط، بل قد يكون هو الحبل الذي يشنق صاحبه.
الإعلام كمرآة معكوسة
لم يعد الإعلام العربي اليوم مرآةً صافية تعكس الحقيقة، بل صار مرآة مشروخة تُظهر الوجوه بأكثر من صورة. قناة هنا تصرخ “المقاومة شرف الأمة”، وقناة هناك تبث إعلانات لصفقات الغاز والنفط مع من يسمّون “العدو الصهيوني”. لقد صار التناقض مهنة، والازدواجية سياسة.
الإعلام التابع لقطر مثال بارز فهو يتقن صناعة العناوين النارية التي تجعل المواطن البسيط يظن أن فلسطين ستُحرر غداً صباحاً، بينما الواقع أن الطائرات الأمريكية تملأ سماء الدوحة، وصفقات السلاح تمر تحت الطاولة كما تمر الريح بلا أثر. وهكذا صار الإعلام أداة لتسكين الألم، أشبه بمخدر اجتماعي، يُضحكنا في البرامج الحوارية لكنه يتركنا في واقع سياسي أكثر مرارة. والنتيجة: شعوب مخدوعة، وواقع منخور، وأمة تائهة بين الشاشات المضيئة والحقيقة المظلمة.
قطر .. الراقصة على الحبلين
لا يختلف اثنان أن قطر صارت لاعباً بارعاً في لعبة التوازنات. فهي من جهة تستضيف قادة فصائل وتمنحهم منابر وملاذاً، ومن جهة أخرى تنفق المليارات لتقوية تحالفها مع واشنطن، وتفتح أبوابها لقادة تل أبيب في جلسات تفاوض سرية. هذه السياسة تبدو كرقصة بهلوانية فوق حبلين مشدودين بين ناطحتين شاهقتين، فالأولى اسمها “المقاومة”، والثانية اسمها “المصالح”. المشكلة أن الرياح الدولية لا ترحم، والحبال قد تنقطع في أي لحظة. حينها لن ينجو البهلوان من السقوط، وسيصفق الجمهور – أي العرب – لا إعجاباً بل شماتة. قطر لم تختر أن تكون مع أو ضد، لكنها اختارت أن تكون لاعب سيرك، واللاعب في السيرك، مهما علا تصفيقه، يبقى أسيراً لقوانين الفيزياء .. فمن يقفز كثيراً لا بد أن يسقط.
العرب بين الخيبة والخذلان
المشهد الأوسع لا يخص قطر وحدها، بل يشمل العرب جميعاً. دول تتسابق للتطبيع من تحت الطاولة وكأنها تبيع تاريخها في مزاد علني. وشعوب تنقسم بين مصدق للأوهام ومكذّب بلا حول ولا قوة. والواقع أن إسرائيل تزداد قوة بفضل دعم أمريكي غير مشروط، والعرب يتنازعون على مقاعد في قاعات الأمم المتحدة، كأنها غنيمة حرب.
لقد صار العرب اليوم في الحقيقة مثل شخص يحاول سدّ هيجان البحر بغربال؛ جهد ضائع وزمن مهدور. قطر .. لعبت على الحبلين، لكن البقية إما جلسوا متفرجين أو شاركوا في التصفيق. والمحصلة النهائية أن إسرائيل صارت أكثر جرأة، وأمريكا أكثر نفوذاً، والعرب أكثر تشرذماً. إنها مأساة تُروى بلسان ساخر، لكنها في العمق دمعة حارقة على أمة أضاعت البوصلة.
ختاما، إن الإعلام لا يحرر الأوطان، والرقص على الحبال لا يبني قوة سياسية، والتطبيع من تحت الطاولة لا يُرجع كرامة مسلوبة.
لقد لعبت قطر لعبتها، والعرب شاركوا في المسرحية، وإسرائيل كتبت النص وأمريكا وزعت الأدوار. أما الشعوب، فما زالت تنتظر البطل الذي لا يأتي. وما بين الأوهام والواقع، تظل الحقيقة صارخة .. من لا يملك القوة، لن يُسمع صوته، ومن يتأرجح بين الحبلين، لن ينجو من السقوط .. وحتما فالتاريخ لا يصفق للساقطين .. فتأمل .. !