منتدى العمق

الماء والفلاحة في إقليم شيشاوة: إشكالات الاستدامة والتأطير القانوني

يُعتبر إقليم شيشاوة أحد الأقاليم التابعة لجهة مراكش–آسفي، وهو يقع في موقع استراتيجي يربط بين سهل الحوز شمالاً وسهول سوس جنوباً، ويمتد من تخوم الأطلس الكبير شرقاً إلى الهضاب الغربية الأطلسية. تبلغ مساحته أزيد من 6.800 كيلومتر مربع، ويضم تنوعاً جغرافياً ومناخياً ملحوظاً يجمع بين المناطق الجبلية الوعرة، والهضاب شبه الجافة، والسهول الفلاحية.
يعتمد الإقليم على النشاط الفلاحي وتربية الماشية كمصدر رئيسي لعيش أغلب ساكنته القروية، إضافة إلى بعض الأنشطة التجارية المرتبطة بموقعه على الطريق الوطنية رقم 8 الرابطة بين مراكش وأكادير. ورغم توفره على مؤهلات طبيعية وبشرية مهمة، يواجه إقليم شيشاوة تحديات مرتبطة بندرة الموارد المائية، وتوالي فترات الجفاف، ما يجعل مسألة تدبير الماء محوراً أساسياً للتنمية المستدامة في المنطقة.

ويعرف إقليم شيشاوة خلال العقود الأخيرة تفاعلاً مع التوجهات الوطنية في المجال الفلاحي، خاصة من خلال تنزيل مخطط المغرب الأخضر ثم برنامج الجيل الأخضر 2020–2030. وقد تمحورت هذه السياسات حول تشجيع الاستثمار في القطاع الفلاحي، وتثمين المنتجات المحلية، وتوسيع المساحات المسقية عبر إدخال تقنيات الري الموضعي خاصة الري بالتنقيط.

غير أن هذه السياسة حملت أيضاً تحديات كبيرة على مستوى الموارد المائية، إذ ساهمت في ارتفاع الضغط على الفرشات الجوفية بسبب توسع الزراعات ذات الاستهلاك المرتفع للماء، في منطقة تعاني أصلاً من هشاشة مناخية وتقلبات حادة في التساقطات. كما أن ضعف البنية التحتية المائية بالإقليم، وقلة السدود الصغرى والمتوسطة، جعل الاعتماد شبه كلي على المياه الجوفية، ما أدى إلى انخفاض منسوب العديد من الآبار ونضوب بعض العيون.

رغم ذلك، لا يمكن إنكار بعض المكتسبات التي حققتها هذه السياسات، مثل إدماج فلاحين صغار في سلاسل إنتاجية جديدة، وتحسين مردودية بعض الزراعات، وخلق فرص شغل موسمية. لكن التحدي الأكبر الذي يظل مطروحاً هو كيفية تحقيق توازن بين تنمية القطاع الفلاحي والحفاظ على الموارد المائية، عبر سياسات أكثر تكاملاً بين الفلاحة والماء، مع إشراك الساكنة المحلية في وضع وتنفيذ البرامج.

وفي الآونة الأخيرة تُبين المؤشرات المائية بإقليم شيشاوة أن المنطقة تعيش وضعاً مقلقاً على مستوى الأمن المائي، إذ يعتمد الإقليم بشكل شبه كلي على المياه الجوفية في غياب بنية تحتية كبرى لتخزين المياه السطحية. ورغم بعض الاستثمارات في السدود الصغرى والمتوسطة، فإنها لم تفلح في مواكبة الطلب المتزايد على الري والشرب، خاصة مع توالي سنوات الجفاف. كما أن التوسع الفلاحي، المدعوم بالسياسات الوطنية، ساهم في ارتفاع الاستغلال المكثف للآبار والمضخات، ما أدى إلى تراجع منسوب الفرشات المائية ونضوب عدد من العيون التي كانت تؤمن التوازن البيئي والاجتماعي للمنطقة. هذا الواقع يعكس فجوة واضحة بين الأهداف الطموحة للسياسة الفلاحية والقدرات المحدودة للموارد المائية، ويجعل من إعادة التفكير في تدبير الماء شرطاً أساسياً لتحقيق أي تنمية مستدامة بإقليم شيشاوة.

كما تجاوزت أزمة الماء في إقليم شيشاوة بعدها الفلاحي لتنعكس بوضوح على التوازن البيئي الهش بالمنطقة. فقد أدى التراجع المستمر في منسوب المياه الجوفية إلى جفاف عدد من العيون التي كانت تُعتبر شريان حياة للساكنة، مثل عين أباينو وعين سكساوة، إضافة إلى تراجع جريان وادي شيشاوة الذي لم يعد يحتفظ بمياهه إلا لفترات قصيرة خلال السنة. هذا الانحسار أثّر بشكل مباشر على الغطاء النباتي، حيث تقلصت المراعي الطبيعية في مناطق مثل السعيدات وسيدي امحمد الدليل، ما زاد الضغط على النظم البيئية الجبلية والهضبية، وأدى إلى تدهور التنوع الحيوي الذي كان يميز الإقليم. هذه التحولات البيئية لا تهدد فقط استدامة الموارد الطبيعية، بل تمثل أيضاً خطراً على الممارسات التقليدية التي اعتمدت لعقود على توازن دقيق بين الماء والأرض، وهو توازن مهدد اليوم بفعل الاستغلال المفرط والتغيرات المناخية المتسارعة.

وقد شكلت ظاهرة حفر الآبار بدون ترخيص أزمة حقيقية تهدد الموارد المائية بإقليم شيشاوة. فمع تراجع الأمطار ونضوب بعض العيون التقليدية، لجأ عدد من الفلاحين إلى حفر آبار عشوائية لتأمين السقي أو تزويد الماشية بالماء، دون أي رقابة أو احترام للقوانين المعمول بها. هذه الممارسات أدت إلى استنزاف الفرشات الجوفية بشكل ملحوظ، ما انعكس على مستوى المياه المتوفرة للساكنة والأنشطة الزراعية. ورغم وجود تشريعات واضحة تمنع الحفر غير المرخص، إلا ضعف المراقبة وصعوبة تطبيق القانون في المناطق القروية ساعد على انتشار هذه الظاهرة. ويبدو أن معالجة هذا الخلل تتطلب أكثر من مجرد قوانين، فهي بحاجة إلى سياسات عملية تشمل دعم الفلاحين بتقنيات ري مقتصدة، إنشاء سدود صغرى، وتجميع مياه الأمطار، مع حملات توعية مستمرة لتأكيد أهمية الحفاظ على الموارد المائية للأجيال القادمة.

على الرغم من الدور المحوري للشرطة المياه في حماية الموارد المائية بإقليم شيشاوة، إلا أن واقع الميدان يكشف عن قصور كبير في الفعالية. فالشرطة المكلفة بمراقبة حفر الآبار وتنظيم استغلال المياه غالباً ما تواجه صعوبة الوصول إلى المناطق القروية النائية، ما يجعل تطبيق القوانين شبه متعثر، ويتيح استمرار ظاهرة الحفر العشوائي للآبار دون رخص. كما أن محدودية الموارد البشرية والتقنية تقلل من قدرة الأجهزة على متابعة مستويات المياه ومراقبة الاستهلاك، خصوصاً في أوقات الذروة الزراعية. ورغم الحملات التوعوية التي تهدف لتثقيف المزارعين حول أهمية ترشيد المياه، يظل تطبيق القانون والمراقبة الفعلية أساسياً للحفاظ على توازن الفرشات الجوفية والعيون التقليدية، وهو تحدٍ لم يتم التغلب عليه بعد. هذا الواقع يسلط الضوء على ضرورة تعزيز الإمكانيات المادية والتقنية للشرطة المائية، وربط عملها بشراكات حقيقية مع السلطات المحلية والمزارعين لضمان حماية مستدامة للموارد المائية بالإقليم.

في نهاية المطاف، يشكل الماء في إقليم شيشاوة ثروة هشة تواجه ضغوطاً متزايدة من الزراعة المكثفة وحفر الآبار العشوائي والجفاف المستمر. والحفاظ عليه لم يعد خياراً، بل ضرورة ملحة تتطلب تضافر جهود السلطات المحلية، الشرطة المياه، والمزارعين أنفسهم، عبر مراقبة صارمة، ترشيد الاستهلاك، وحملات توعية، لضمان استدامة الموارد المائية وحماية البيئة والمجتمع على حد سواء.