منتدى العمق

عمامة في قاعة الخلد!؟

شهد العراق عبر تاريخه الحديث منعطفات كبرى شكّلت مسار نظامه السياسي والاجتماعي، غير أنّ انقلاب حزب البعث الثاني في تموز 1968 مثّل بدايةً لمرحلة مظلمة رسمت ملامح الدكتاتورية بأبشع صورها.

تحوّل النظام الجمهوري الذي وُلد بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى أداة بيد جماعة ضيقة، قادها صدام حسين بخطوات متدرجة حتى استحوذ على القرار كاملاً، كانت قاعة الخلد مسرحاً لمشهد مأساوي لا يزال محفوراً في ذاكرة العراقيين، إذ جمع صدام رفاقه الذين شاركوه الانقلاب، وبدلاً من تكريمهم، أخذ يذيع أسماءهم الواحد تلو الآخر، ليُساقوا خارج القاعة نحو مقصلة الإعدام، فيما يُرغم الباقون على ترديد شعارات البعث المجرم.

تلك اللحظة كانت إعلاناً عملياً عن ولادة حكم الفرد، وانتهاء فكرة الشراكة في السلطة، وبداية ثلاثة وثلاثين عاماً من الاستبداد، بنيت على دماء العراقيين ومعاناتهم.

هكذا تحولت قاعة الخلد إلى رمزٍ للدكتاتورية والخوف، وإلى شاهدٍ على مأساة نخبة سياسية ابتلعتها آلة العنف البعثية، ولم يكن المشهد معزولاً عن الواقع، فقد استُنسخت عقلية القمع لتطال الشعب بأسره، من إعدامات وسجون وحروب متتالية، جعلت العراق أسيراً لشخص واحد يختزل الدولة في ذاته.

لكن عجلة الزمن، بقدر ما تسحق الشعوب أحياناً، فإنها تتيح فرصة لإعادة كتابة التاريخ،  فبعد أكثر من نصف قرن على تلك الحقبة السوداء، تعود قاعة الخلد لتحتضن حدثاً على النقيض تماماً، مؤتمر الديمقراطية للنظام السياسي العراقي، القاعة التي تناثرت على جدرانها دماء القرابين، أصبحت اليوم ساحة يتلاقى فيها الخصوم السياسيون تحت سقف التعددية، قبل ستين يوماً من الانتخابات البرلمانية، في المكان ذاته الذي كان إعلان الموت فيها يعني إعلان الولاء، صار إعلان المشاركة في الانتخابات تجديداً للالتزام بالعملية الديمقراطية.

الخلد سابقا توشحت بالزيتوني، لكن اليوم ترتقي منبرها عمامة سوداء، ارتفع صوتها بنبرة مختلفة عن صخب البعث وشعاراته، حمل خطاباً مختلفاً عن كل ما ألفه العراقيون في القاعة ذاتها قبل عقود، لم يتحدث عن الولاء لشخص أو حزب، بل عن الحرية والديمقراطية وأهمية المشاركة في الانتخابات، أكّدت العمامة أن العراق اليوم بلد ديمقراطي، لا دكتاتوري، وأن التجربة الديمقراطية رغم عثراتها تبقى الخيار الوحيد القادر على بناء الدولة وصيانة الحقوق وضمان التداول السلمي للسلطة.

الانتقال من مشهد الدم إلى مشهد الحوار،  يعكس التحولات الكبرى التي شهدها العراق بعد 2003، صحيح أن الطريق لم يكن معبداً، وأن التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية كانت ثقيلة الوطأة، إلا أن مجرد اجتماع الفرقاء في قاعة الخلد لتداول مستقبل بلدهم، بدلاً من تصفية بعضهم البعض، يمثل بحد ذاته تأسيساً لشرعية جديدة.. شرعية الديمقراطية.

إنَّ أهمية هذه التجربة لا تكمن فقط في صناديق الاقتراع، بل في ترسيخ القناعة بأن الشعب هو مصدر السلطة، وأن الاختلاف لا يعني العداء، بل التنوع الذي يغني المشهد الوطني، وإن خطاب السيد عمار الحكيم في قاعة الخلد لم يكن مجرد غزل سياسي، بل إشارة رمزية إلى أن العراق قادر على تحويل أماكن الألم إلى منصات للأمل، وقادر على تجاوز إرث الاستبداد عبر التمسك بمبادئ الديمقراطية.

قاعة الخلد التي ارتبطت في ذاكرة العراقيين بالخوف والمشانق، تحولت الى منصة تُرفع فيها شعارات الحرية والتعددية، من نظام حكم فردي صادر إرادة الأمة، إلى تجربة سياسية تسعى إلى إشراك الشعب في صناعة القرار، إنها رحلة العراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، رحلة مليئة بالتضحيات، لكنها فتحت أبواب المستقبل أمام أجيال تتطلع لبناء دولة حديثة، دولة لا تستمد قوتها من سطوة الفرد، بل من إرادة الجماعة.